سبحان الله ,, و الحمد لله ,, و الله أكبر ,, و لا إله إلا الله
[b]الانسان سر الخليقة
الإنسان ـ كما وصفه القرآن ـ صفوة الخليقة و فلذتها و سرّها الكامن في السلسلة الوجود .
لا
تجد وصفاً عن الإنسان وافياً ببيان حقيقته الذاتية التي جَبَله الله عليها
ـ في جميع مناحيها و أبعادها المترامية ـ في سوى القرآن . يصفه بأجمل صفات
و أفضل نعوت لم يُنْعَم بِها أيّ مخلوق سواه ، و من ثَمَّ فَقد حظى بعناية
الله الخاصّة و حُبه بكرامته منذ بدء الوجود .
و لنشر إلى فهرسة تلكم الصفات و الميزات التي أهّلته لمثل هذه العناية و الحباء :
1 ـ خلقه الله بيديه : ? ... مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ... ? [1] .
2 ـ نفخ فيه من روحه : ?فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ? [2] [3] .
3 ـ أودعه أمانته : ?
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ... ? [4] .
4 ـ علمه الأسماء كلّها : ? وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ... ? [5] .
5 ـ أسجد له ملائكته : ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ... ? [6] .
6 ـ منحه الخلافة في الأرض : ? ... إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ... ? [7] .
7 ـ سخر له ما في السماوات و ما في الارض جميعاً : ? وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ... ? [8] .
و من ثَمَّ بارك نفسه في هذا الخلق الممتاز : ? ... ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ? [9] .
ميزات سبع حظي بها الإنسان في أصل وجوده ، فكان المخلوق المفضّل الكريم . و إليك بعض التوضيح :
ميزات الإنسان الفطرية
امتاز الإنسان في ذات وجوده بميزات لم يحظ بها غيره من سائر الخلق : فقد شرّفه الله بأن خلقه بيديه : ? ...مَا مَنَعَكَ ... ? [10] ( خطاباً لإبليس ) ? ... أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ...
? [11] . و الله خالق كلّ شيء . فلا بدّ أن تكون هناك خصوصيّة في خلق هذا
الإنسان تستحق هذا التنويه . هي خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن ، و
إيداعُه نفخةً من روح الله دلالةً على هذه العناية !
قال العلاّمة الطباطبائي : نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال : ? ... وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ... ? [12] . و تثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه و صنعه ، ذلك أنّ الإنسان إذا اهتّم بصنع شيء استعمل يديه معاً عناية به [13] .
و
هكذا نفخة الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان ـ في أصل
فطرته ـ بالملأ الأعلى حتّى و لو كان متّخذاً ـ في جانب جسده ـ من عناصر
تربطه بالأرض ، فهو في ذاته عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّاً .
و
لقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض ثُمَّ من النفخة العلويّة التي فرّقت
بينه و بين سائر الأحياء . و منحته خصائصه الإنسانية الكبرى . و أوّلها
القدرة على الارتقاء في سلّم المدارك العليا الخاصّة بعالم الإنسان .
هذه
النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى ، و تجعله أهلاً للاتصال بالله ، و
للتلقّي عنه و لتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات و الحواسّ ،
إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب و العقول . و التي تمنحه ذلك
السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان و المكان ، و وراء طاقة العضلات و
الحواسّ ، إلى ألوان من المدركات و ألوان من التصوّرات غيرالمحدودة في بعض
الأحيان [14] .
و
بذالك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتية
رفيعة أودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق . و تتلخّص هذه الودائع
في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأولى و التي أهّلته للاستيلاء
على طاقات كامنة في طبيعة الوجود و تسخيرها حيث يشاء .
إنّها
القدرة على الإرادة و التصميم ، القدرة على التفكير و التدبير ، القدرة
على الإبداع و التكوين . القدرة على الاكتشاف و التسخير . إنها الجرأة على
حمل هذا العبء الخطير . قال سيّد قطب : إنّها الإرادة و الإدراك و المحاولة
و حمل التعبة ، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله . و هي هي
مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى و هو يُسجِد الملائكة لآدم .
و أعلنه في قرآنه الباقي و هو يقول : ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
... ? [15] . فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله ، و لينهض بالأمانة التي
اختارها . و التي عرضت على السماوات و الأرض و الجبال ، فأبين أن يحملنها و
أشفقن منها [16] .
إنّها
أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم الكبير القُوى القويّ العزم . و
من ثَمَّ كان ظلوماً لنفسه حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها ،
جهولاً لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده و هو بَعْدُ لا يعرفها .
و
هكذا علّمه الأسماء : القدرة على معرفة الأشياء بذواتها و خاصّيّاتها و
آثارها الطبيعية العاملة في تطوير الحياة ، و التي وقعت رهن إرادة الإنسان
ليسخّرها في مآربه حيث يشاء ، و بذلك يتقدّم العالم بحشده و جموعه في سبيل
عمارة الأرض و ازدهار معالمها ، حيث أراده الله من هذا الإنسان ? ... هُوَ
أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ... ? [17] .
و
بذلك أصبح هذا الإنسان ـ بهذه الميزات ـ خليفة الله في الأرض [18] ، حيث
يتصرّف فيها وفق إرادته و طاقاته المودعة فيه ، و يعمل في عمارة الأرض و
تطوير الحياة .
كما و أنّ تسخير ما في
السماوات وما في الأرض جميعاً [20] ، كناية عن إخضاع القوي الطبيعية
المودعة في أجواء السماوات و الأرض ـ لهذا الإنسان ، تعمل فور إرادته بلا
فتور و لا قصور. و معنى تسخيرها له : أنّ الإنسان فُطر على إمكان تسخيرها .
و
إسجاد الملائكة له في عرصة الوجود ، كناية عن إخضاع القوى النورانية
برمّتها للإنسان ، تعمل وفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف ، في مقابلة
القوى الظلمانية ( إبليس و جنوده ) تعمل في معاكسة مصالحه إلاّ من عصمهُ
الله من شرور الشياطين ? إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ? [19] .فسبحانه من خالقٍ عظيم ، إذ خلق خلقاً بهذه العظمة و الاقتدار الفائق على كلّ مخلوق !
هذه دراستنا عن الإنسان على صفحات مشرفة من القرآن الكريم ، فيا ترى أين
يوجد مثل هذه العظمة و التبجيل لمخلوقٍ هو في هندامه صغير و في طاقاته كبير
، كبرياءاً ملأ الآفاق!
أتزعم أنك جسمٌ صغيرٌ *** و فيك انطوى العالم الأكبر
فتبارك الله أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين !
خلقتُ الأشياء لأجلك و خلقتك لأجلي !
حديث قدسيّ معروف
[21] خطاباً مع بني آدم ، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة كما كانت الذات
المقدّسة هي الغاية من خلقه الإنسان ! فكما و أنّ الأشياء برمّتها ـ علواً و
سفلاً ـ سخّرها الله لهذا الإنسان و لتكون في قبضته فتجلّى فيها مقدرته
الهائلة ، كذلك خلق الإنسان ليكون مظهراً تامّاً لكامل قدرته تعالى في
الخلق و الإبداع .
ما من مخلوق ـ صغيرٍ أو كبير ـ إلاّ و هو مظهر
لتجلّي جانب من سمات الصانع الحكيم « وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه
واحد ». أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات
الجمال و الجلال .
فإذا سئلت : ما هي الغاية من خلق ما في السماوات و
ما في الأرض جميعاً ؟ قُلتَ ـ حسب وصف القرآن ـ : هو الإنسان ذاته مستودع
أمانات الله و ليكون خليفته في الأرض !
و إذا سئلت : ماهي الغاية من خلقة الإنسان ذاته ؟
قُلتَ : هُوَ اللهُ الصانعُ الحكيم : حيث الإنسان بقدرته على الخلق و
الإبداع أصبح مظهراً تامّاً لكامل الأسماء و الصفات ، فكان وجه الله الأكمل
و عين الله الأتمّ !
فكان الإنسان غاية الخليفة ، و كان الله الغاية
من خلق الإنسان ، فالله هو غاية الغايات و بذلك ورد : « كنت كنزاً مخفيّاً
فأحببتُ أن اُعرَف ، فخلقتُ الخلق لكي اُعرَف » [22] . حيث الإفاضة ـ و هي
تجلّي الذات المقدّسة ـ كانت بالخلق و الإبداع و مظهره الأتمّ هو الإنسان
[23] .
العلامة الشيخ محمد هادي معرفة رحمه الله
--------------------------------------------------------------------------------
[1] القران الكريم : سورة صاد ( 38 ) ، الآية : 75 ، الصفحة : 457 .
[2] القران الكريم : سورة الحجر ( 15 ) ، الآية : 29 ، الصفحة : 263 .
[3]
و في سورة السجدة? ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ... ?
(القران الكريم : سورة السجدة ( 32 ) ، الآية : 9 ، الصفحة : 415.)
[4] القران الكريم : سورة الأحزاب ( 33 ) ، الآية : 72 ، الصفحة : 427 .
[5] القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 31 ، الصفحة : 6 .
[6] القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 34 ، الصفحة : 6 .
[7] القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 30 ، الصفحة : 6 .
[8] القران الكريم : سورة الجاثية ( 45 ) ، الآية : 13 ، الصفحة : 499 .
[9] القران الكريم : سورة المؤمنون ( 23 ) ، الآية : 14 ، الصفحة : 342 .
[10] القران الكريم : سورة صاد ( 38 ) ، الآية : 75 ، الصفحة : 457 .
[11] القران الكريم : سورة صاد ( 38 ) ، الآية : 75 ، الصفحة : 457 .
[12] القران الكريم : سورة الحجر ( 15 ) ، الآية : 29 ، الصفحة : 263 .
[13] تفسير الميزان : 17 / 239 .
[14] من إفادات سيّد قطب ، راجع : في ظلال القرآن : 14 / 17 ، المجلد 5 ، ص 203 .
[15] القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 70 ، الصفحة : 289 .
[16] في ظلال القرآن : 22 / 47 ، المجلد 6 ، ص 618 .
[17] القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 61 ، الصفحة : 228 .
[18] راجع : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 30 .
[19] القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 65 ، الصفحة : 288 .
[20] راجع : سورة الجاثية ( 45 ) ، الآية : 13
[21] راجع : علم اليقين للفيض الكاشاني :1 / 381 .
[22] حديث قدسي معروف. راجع : البحار : 84 / 199؛ و هامش عوالى اللئالي : 1 / 55 ؛ و كتاب كشف الخفاء للعجاوني : 2 / 132 .
[23]
شبهات وردود حول القرآن الكريم : 21 ـ 25 ، تحقيق : مؤسسة التمهيد ،
الطبعة الثانية / سنة : 1424 هـ 2003 م ، منشورات ذوي القربى ، قم المقدسة /
الجمهورية الاسلامية الإيرانية .
[/b]الإنسان ـ كما وصفه القرآن ـ صفوة الخليقة و فلذتها و سرّها الكامن في السلسلة الوجود .
لا
تجد وصفاً عن الإنسان وافياً ببيان حقيقته الذاتية التي جَبَله الله عليها
ـ في جميع مناحيها و أبعادها المترامية ـ في سوى القرآن . يصفه بأجمل صفات
و أفضل نعوت لم يُنْعَم بِها أيّ مخلوق سواه ، و من ثَمَّ فَقد حظى بعناية
الله الخاصّة و حُبه بكرامته منذ بدء الوجود .
و
لقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض ثُمَّ من النفخة العلويّة التي فرّقت
بينه و بين سائر الأحياء . و منحته خصائصه الإنسانية الكبرى . و أوّلها
القدرة على الارتقاء في سلّم المدارك العليا الخاصّة بعالم الإنسان .
لقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض ثُمَّ من النفخة العلويّة التي فرّقت
بينه و بين سائر الأحياء . و منحته خصائصه الإنسانية الكبرى . و أوّلها
القدرة على الارتقاء في سلّم المدارك العليا الخاصّة بعالم الإنسان .
و لنشر إلى فهرسة تلكم الصفات و الميزات التي أهّلته لمثل هذه العناية و الحباء :
1 ـ خلقه الله بيديه : ? ... مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ... ? [1] .
2 ـ نفخ فيه من روحه : ?فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ? [2] [3] .
3 ـ أودعه أمانته : ?
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ... ? [4] .
4 ـ علمه الأسماء كلّها : ? وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ... ? [5] .
5 ـ أسجد له ملائكته : ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ... ? [6] .
6 ـ منحه الخلافة في الأرض : ? ... إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ... ? [7] .
7 ـ سخر له ما في السماوات و ما في الارض جميعاً : ? وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ... ? [8] .
و من ثَمَّ بارك نفسه في هذا الخلق الممتاز : ? ... ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ? [9] .
ميزات سبع حظي بها الإنسان في أصل وجوده ، فكان المخلوق المفضّل الكريم . و إليك بعض التوضيح :
ميزات الإنسان الفطرية
امتاز الإنسان في ذات وجوده بميزات لم يحظ بها غيره من سائر الخلق : فقد شرّفه الله بأن خلقه بيديه : ? ...مَا مَنَعَكَ ... ? [10] ( خطاباً لإبليس ) ? ... أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ...
? [11] . و الله خالق كلّ شيء . فلا بدّ أن تكون هناك خصوصيّة في خلق هذا
الإنسان تستحق هذا التنويه . هي خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن ، و
إيداعُه نفخةً من روح الله دلالةً على هذه العناية !
قال العلاّمة الطباطبائي : نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال : ? ... وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ... ? [12] . و تثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه و صنعه ، ذلك أنّ الإنسان إذا اهتّم بصنع شيء استعمل يديه معاً عناية به [13] .
و
هكذا نفخة الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان ـ في أصل
فطرته ـ بالملأ الأعلى حتّى و لو كان متّخذاً ـ في جانب جسده ـ من عناصر
تربطه بالأرض ، فهو في ذاته عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّاً .
و
لقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض ثُمَّ من النفخة العلويّة التي فرّقت
بينه و بين سائر الأحياء . و منحته خصائصه الإنسانية الكبرى . و أوّلها
القدرة على الارتقاء في سلّم المدارك العليا الخاصّة بعالم الإنسان .
هذه
النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى ، و تجعله أهلاً للاتصال بالله ، و
للتلقّي عنه و لتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات و الحواسّ ،
إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب و العقول . و التي تمنحه ذلك
السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان و المكان ، و وراء طاقة العضلات و
الحواسّ ، إلى ألوان من المدركات و ألوان من التصوّرات غيرالمحدودة في بعض
الأحيان [14] .
و
بذالك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتية
رفيعة أودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق . و تتلخّص هذه الودائع
في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأولى و التي أهّلته للاستيلاء
على طاقات كامنة في طبيعة الوجود و تسخيرها حيث يشاء .
إنّها
القدرة على الإرادة و التصميم ، القدرة على التفكير و التدبير ، القدرة
على الإبداع و التكوين . القدرة على الاكتشاف و التسخير . إنها الجرأة على
حمل هذا العبء الخطير . قال سيّد قطب : إنّها الإرادة و الإدراك و المحاولة
و حمل التعبة ، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله . و هي هي
مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى و هو يُسجِد الملائكة لآدم .
و أعلنه في قرآنه الباقي و هو يقول : ?وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
... ? [15] . فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله ، و لينهض بالأمانة التي
اختارها . و التي عرضت على السماوات و الأرض و الجبال ، فأبين أن يحملنها و
أشفقن منها [16] .
إنّها
أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم الكبير القُوى القويّ العزم . و
من ثَمَّ كان ظلوماً لنفسه حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها ،
جهولاً لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده و هو بَعْدُ لا يعرفها .
و
هكذا علّمه الأسماء : القدرة على معرفة الأشياء بذواتها و خاصّيّاتها و
آثارها الطبيعية العاملة في تطوير الحياة ، و التي وقعت رهن إرادة الإنسان
ليسخّرها في مآربه حيث يشاء ، و بذلك يتقدّم العالم بحشده و جموعه في سبيل
عمارة الأرض و ازدهار معالمها ، حيث أراده الله من هذا الإنسان ? ... هُوَ
أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ... ? [17] .
و
بذلك أصبح هذا الإنسان ـ بهذه الميزات ـ خليفة الله في الأرض [18] ، حيث
يتصرّف فيها وفق إرادته و طاقاته المودعة فيه ، و يعمل في عمارة الأرض و
تطوير الحياة .
كما و أنّ تسخير ما في
السماوات وما في الأرض جميعاً [20] ، كناية عن إخضاع القوي الطبيعية
المودعة في أجواء السماوات و الأرض ـ لهذا الإنسان ، تعمل فور إرادته بلا
فتور و لا قصور. و معنى تسخيرها له : أنّ الإنسان فُطر على إمكان تسخيرها .
و
إسجاد الملائكة له في عرصة الوجود ، كناية عن إخضاع القوى النورانية
برمّتها للإنسان ، تعمل وفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف ، في مقابلة
القوى الظلمانية ( إبليس و جنوده ) تعمل في معاكسة مصالحه إلاّ من عصمهُ
الله من شرور الشياطين ? إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ? [19] .فسبحانه من خالقٍ عظيم ، إذ خلق خلقاً بهذه العظمة و الاقتدار الفائق على كلّ مخلوق !
هذه دراستنا عن الإنسان على صفحات مشرفة من القرآن الكريم ، فيا ترى أين
يوجد مثل هذه العظمة و التبجيل لمخلوقٍ هو في هندامه صغير و في طاقاته كبير
، كبرياءاً ملأ الآفاق!
أتزعم أنك جسمٌ صغيرٌ *** و فيك انطوى العالم الأكبر
فتبارك الله أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين !
خلقتُ الأشياء لأجلك و خلقتك لأجلي !
حديث قدسيّ معروف
[21] خطاباً مع بني آدم ، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة كما كانت الذات
المقدّسة هي الغاية من خلقه الإنسان ! فكما و أنّ الأشياء برمّتها ـ علواً و
سفلاً ـ سخّرها الله لهذا الإنسان و لتكون في قبضته فتجلّى فيها مقدرته
الهائلة ، كذلك خلق الإنسان ليكون مظهراً تامّاً لكامل قدرته تعالى في
الخلق و الإبداع .
ما من مخلوق ـ صغيرٍ أو كبير ـ إلاّ و هو مظهر
لتجلّي جانب من سمات الصانع الحكيم « وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه
واحد ». أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات
الجمال و الجلال .
فإذا سئلت : ما هي الغاية من خلق ما في السماوات و
ما في الأرض جميعاً ؟ قُلتَ ـ حسب وصف القرآن ـ : هو الإنسان ذاته مستودع
أمانات الله و ليكون خليفته في الأرض !
و إذا سئلت : ماهي الغاية من خلقة الإنسان ذاته ؟
قُلتَ : هُوَ اللهُ الصانعُ الحكيم : حيث الإنسان بقدرته على الخلق و
الإبداع أصبح مظهراً تامّاً لكامل الأسماء و الصفات ، فكان وجه الله الأكمل
و عين الله الأتمّ !
فكان الإنسان غاية الخليفة ، و كان الله الغاية
من خلق الإنسان ، فالله هو غاية الغايات و بذلك ورد : « كنت كنزاً مخفيّاً
فأحببتُ أن اُعرَف ، فخلقتُ الخلق لكي اُعرَف » [22] . حيث الإفاضة ـ و هي
تجلّي الذات المقدّسة ـ كانت بالخلق و الإبداع و مظهره الأتمّ هو الإنسان
[23] .
العلامة الشيخ محمد هادي معرفة رحمه الله
--------------------------------------------------------------------------------
[1] القران الكريم : سورة صاد ( 38 ) ، الآية : 75 ، الصفحة : 457 .
[2] القران الكريم : سورة الحجر ( 15 ) ، الآية : 29 ، الصفحة : 263 .
[3]
و في سورة السجدة? ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ... ?
(القران الكريم : سورة السجدة ( 32 ) ، الآية : 9 ، الصفحة : 415.)
[4] القران الكريم : سورة الأحزاب ( 33 ) ، الآية : 72 ، الصفحة : 427 .
[5] القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 31 ، الصفحة : 6 .
[6] القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 34 ، الصفحة : 6 .
[7] القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 30 ، الصفحة : 6 .
[8] القران الكريم : سورة الجاثية ( 45 ) ، الآية : 13 ، الصفحة : 499 .
[9] القران الكريم : سورة المؤمنون ( 23 ) ، الآية : 14 ، الصفحة : 342 .
[10] القران الكريم : سورة صاد ( 38 ) ، الآية : 75 ، الصفحة : 457 .
[11] القران الكريم : سورة صاد ( 38 ) ، الآية : 75 ، الصفحة : 457 .
[12] القران الكريم : سورة الحجر ( 15 ) ، الآية : 29 ، الصفحة : 263 .
[13] تفسير الميزان : 17 / 239 .
[14] من إفادات سيّد قطب ، راجع : في ظلال القرآن : 14 / 17 ، المجلد 5 ، ص 203 .
[15] القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 70 ، الصفحة : 289 .
[16] في ظلال القرآن : 22 / 47 ، المجلد 6 ، ص 618 .
[17] القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 61 ، الصفحة : 228 .
[18] راجع : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 30 .
[19] القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 65 ، الصفحة : 288 .
[20] راجع : سورة الجاثية ( 45 ) ، الآية : 13
[21] راجع : علم اليقين للفيض الكاشاني :1 / 381 .
[22] حديث قدسي معروف. راجع : البحار : 84 / 199؛ و هامش عوالى اللئالي : 1 / 55 ؛ و كتاب كشف الخفاء للعجاوني : 2 / 132 .
[23]
شبهات وردود حول القرآن الكريم : 21 ـ 25 ، تحقيق : مؤسسة التمهيد ،
الطبعة الثانية / سنة : 1424 هـ 2003 م ، منشورات ذوي القربى ، قم المقدسة /
الجمهورية الاسلامية الإيرانية .