سبحان الله ,, و الحمد لله ,, و الله أكبر ,, و لا إله إلا الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
يطيب لي أن أنقل إليكم هذه القصة بعنوان:
اختراق الزمن
للكاتب القصصي: اسكندر نعمة
اختراق الزمن
للكاتب القصصي: اسكندر نعمة
اندلعت
نار الحرب العالمية الثالثة، دمُر الإنسان وجوده، كان ذلك مخالفاً لتوقَعات
كبار رجال السياسة والاقتصاد.. كانت الحرب سريعة جداً..استمرًت ستَّ ساعات
فقط.. ومضة في حساب الزمن والأحقاب.. مدمّرة جداً في حساب الحياة
والفناء.. استُخدمت فيها أشد أنواع الأسلحة فتكاً، تلك التي اخترعها
الإنسان عبر مسيرة القرن العشرين، من نوويّة، وحارقة، وكيماوّية، وحقد
إنساني ..
حصل ذلك في الساعات الست من ضحى يوم الأول من شباط لعام 2000 ميلادية.. ست ساعات فقط، وعمّ الدمار الشامل كل أنحاء المعمورة..
اختفى الإنسان من الوجود، وبقي بضع مئات تلوب كالسلاحف على سطح الأرض، تعاني من الحروق والكسور والتشوّه، وفقد الأعضاء..
مات
الإنسان مختنقاً بيديه، بالأنسجة التي حاكها.. كان نسيجه أولّ الأمر
فضفاضاً، موشّىً بأطيا فٍ من ألوان الثقافة والحب.. لكن ما إن حاك نسيجه
بخيوط الحقد والعدوان، حتى ضاقت الأردية، فخنقته وغابت شمس الحضارة... بضع
مئات فقط من الناس ظلّوا يتعثرون على سطح الأرض الخربة..
كان
العاِلمُ ( س ) أحدَ أولئك القلائل الذين أتُيح لهم العيشُ بعد حرب ستِّ
الساعات.. مات كل الناس من حوله.. والداه.. زوجته.. أولاده.. أصدقاؤه..
مدينته تخرّبت عن بكرة أبيها، ليس للآخرين حظ مثل حظه.. قبل حلول ساعة
الصفر، كان موجوداً في تلك البناية الضخمة يعرض على المسؤلين فيها مخطّطَ
اختراعٍ جديد انتهى من اختراعه قبل أيام قليلة.. عرض مخططاته على المسؤلين،
لم يجد تفّهماً كافياً.. قال له أحدهم: نحن لا نفهم إلاّ في القتال، نحسم
الأمور عسكرياً.. ساُحيلك إلى مركز البحوث العلمية، فهناك ستجد آذاناً
صاغية متفهّمة.
في مركز
البحوث العلمية، كان يعرض مخططاته، عندما تزلزلت الأرض وحدث الهجوم
الصَاعق غير المنتظر.. هرع مع غيره إلى الملجأ الحصين جداً، المعدّ لدرء
مثل هذه المخاطر المفاجئة.. بعد ست ساعات، وانتهاء آثار الإشعاع الذي دمّر
كل شيء.. كان العِالم (س) يحبو بين الأنقاض ورائحةِ الموت وا لدّخان.. وراح
وهو يحمل حالة عصبيّة مفزعة، يفتّش عن بيته في مدينة لم يبق منها سوى
البقايا اهتدى أخيراً إلى بقايا بيته حيث لم يجد مكاناً آخر يأوي إليه..
استطاع الحصول على بعض بقايا الأطعمة المحفوظة...
عندما
يهبط الليل، كان يشعل النار في بقايا الأخشاب الكثيرة المنتشرة حوله، ليدرأ
عنه البرد والصقيع... الحالة العصبيّة التي سكنت قلبه ودماغه، قد بدأت
تتراجع عبر الأيام... تسليته الوحيدة، كانت تلك الهرّة التي وجدها بين
أنقاض البيت، تأكل من بقايا طعامه.. إلا أن التشويه الناتج عن الحرب قد بدا
عليها، لقد أصبحت جرداء من الشعر، مقطوعة الذيل.. تسير بلا توازن.. لكنه
اضطر أخيراً لأن يقتلها، لأن شهيّتها للطعام كانت بلا حدود، إذ كانت تسطو
على طعامه القليل عنوة، فيظلّ جائعاً...
العالم
(س).. كان قبل الحرب يعمل استاذاً للعلوم الحيويّة في أكبر جامعات المدينة،
يعيش الآن كالحشرات، جائعاً أبداً، يبحث في الأرض عن أي نبات أو شيءٍ يمكن
أن يأكله.. يرتدي ملابس بائسة لا تكاد تقي جسده غائلةَ البرد.. يناجي كل
يوم أطلال مدينته الخربة.. إنها بقايا مدينةٍ كانت ذات يوم تتألق وتزهو
بأكبر جامعات العالم، وتساهم في غزو الفضاء، وتطوير مقولات العلم.. السماء
في بقايا المدينة لم تعد صافية، زرقاء، أصبحت رمادية كئيبة شاحبة...
انتهى
كل شيء.. هكذا قال لنفسه، والبرد والجوع يهدّانه.. لم يبق في العالم جمال
ولا ثقافة.. انفجر باكياً ليس من أجل نفسه بل من أجل الإنسان..لم يحتمل هذا
المصير.. بكى داخلُه.. قال: بعد أكثر من مليون سنة من التطور البشري، عاد
الإنسان إلى الكهوف والعراء من جديد..
قرّر
العالم (س) أن يستثمر الأرض، أن يستنبتها.. كان الجوع ضارياً.. أخذ يعمل في
حديقة منزله الخرب.. أعاد إليها شكلها القديم.. أنهكته جرفاً وحفراً
وزرعاً.. ذات مساء وقبل غروب الشمس، بدت له حشرة..استند إلى فأسه الطويل،
أخذ يراقبها وهو يلهث بعنف، ثم انحنى والتقطها بين اصبعيه، نظر إليها
بعمق.. تعجّب.. قال في سرّه: أهو تشويه آخر.. إنها تكاد تشبه الجرادة
ولكنها ليست بجرادة، فصدرُها مختلف، وجناحاها قصيران جداً، وقوائمها غير
شائكة..التزم جانب الصّمت وهو يدرس الحشرة الغريبة.. إن هذه الجرادة مختلفة
بعض الشيء عن الجراد المألوف، إنها أصغر حجماً، وتنفّسها ضعيف، وضربات
قائميتها الخلفيّتين رخوة جداً.. لقد لعب التشوّه النووي دوره فشوه حتى
الحشرات..
استمر
يدرس الحشرة الغريبة.. واتتهُ فكرة عجيبة.. ماذا لو أن الجراد أكبُر
حجماً!! وأتيح له وهو يعيش بهذا الشكل الجماعي المطلق، وهذا الدأب والسعي
الحميم الذي نعرفه عنه.. ألا يستطيع أن يحكم العالم؟؟!!.. ألا يكون بديلاً
أفضل من الإنسان؟؟ الإنسان الذي مزّق أرديته، وشوّه نفسه، وقضى على حضارته،
ألا يكون الجراد خيراً منه...
مرّت
بخاطر العالم (س) كّل هذه التساؤلات وهو يقلّب بين يديه الجرادةَ المشوهة..
بدا على وجهه نوع من التصميم الجاد.. توحّد مع ذاته لحظاتٍ غير طويلة..
ثبّت نظراته على الحشرة المشوهة، وبأصابعَ متأنيّة واثقة، شقَ جسد الجرادة،
استخرج منها كتلة من البيوض وألقى بجسدها بعيداً... كانت الشمس آنذاك قد
أفلت، وبدات خيوط العتمة تغزو أطلال بيته، وبقايا المدينة المخّربة، وهو
يسائل نفسه: هل يمكن للجراد أن يحكم العالم؟؟..
****
ترك
العالم (س) فأسه، وانكفأ إلى البيت ترافقه تصوراتُه وتساؤلاته.. مدّ يديه
وأشعل مصباحاً متخلّفاً ليبدّد العتمة.. توقّف.. تسمّر في مكانه.. تمتم
كلماتٍ حانقة مغتاظة..تباً له.. لقد نسيَ أمراً على غاية من الأهميّة.. ضغط
على أسنانه حتى كاد يطحنها.. كيف حصل ذلك؟.. لعلّه شكل من أشكال التشويه
أيضاً.. هرش رأسه.. تذكر كل شيء.. الآلة الراقدة تحت الركام في قبو البيت
الداخلي..ابتسم العالم (س) لأول مرّة منذ فترة طويلة.. هذا هو اختراعه
العظيم الذي كان يعرض مخططاته على المسؤولين في مركز البحوث العلمية.. إنه
((جهاز اختراق الزمن )) المجّهز بعقل الكتروني جبّار.. هذه الآلة التي
يمكنها أن تنفذ عبر جدار الأحقاب الزمنّية صعوداً وهبوطاً، إلى الماضي
والمستقبل مهما امتدّا.. الإختراع الكبير الذي أفنى فيه عصارة عمره وعقله
وعلمه..
تحرّر
العالم (س) من جموده وغيظه.. كان الكون قد غطس في العتمة كليّاً.. تحرّك..
حمل المصباح المتخلّف وسار باتجاه القبو.. أخذ يتحسس طريقه بيديه عبر الضوء
الخافت، ويزيح من طريقه عثرات كثيرة.. تراب وحجارة وحشرات لا حصر لها..
توصّل أخيراً.. كان الجهاز يرقد ضمن صندوق خشبي.. نفض عنه التراب.. أخرجه،
نظر إليه بعيون وحشّية وفرحة غامرة.. مسح عليه بأنامله المرتعشة كطفلٍٍ
معذّب.. حمله وعاد به يتعثر في الركام من جديد.. عندما استقر في غرفته
المتآكلة تمتم.. نعم..نعم.. سأتيح للجراد الفرصة لكي يحكم العالم، ربما
يكون خيراً من الجنس البشري الذي مزّق رداءَه.. لعله يعمل على تحقيق السلام
الذي فشل الإنسان في تحقيقه... كان الجهاز سليماً جداً.. بطاريته مشحونة
بأكملها.. العقل الألكتروني ينتظر إشارة لبدء العمل.. ساوره لذلك فرح
جنوني...
قدح
زناد البطارية.. ضغط أزراراً كثيرة.. أخذ المحرك يهتزّ ويصدر أصواتاً رتيبة
هادئة..أحكم إغلاق باب الغرفة، ضغط زرّاً آخر، تغيّر صوت المحرك وأخذ في
الإرتفاع التدريجي.. أخذت اللحظات الراهنة تختفي في لوحة الحياة، الماثلة،
غاصت في رحم الماضي.. ابتعدت، ابتعدت أكثر.. توقّفت قبل ملايين السنين
الغابرة..
عاد
العالم (س) يعيش حياة تلك الأيام قبل ملايين السّنين.. سار بين أدغال
كثيفه، كان يتعثّر جرّاء الأغصان المتشابكة والتربة الرخوة اللزجة التي
تنهار تحت قدميه.. غزت أذنيه أصوات غريبة.. شاهد من بعيد حيوانات عملاقة
ضخمة.. ديناصورات متنوّعة، سلاحف مخيفة، أنهار تخّر بشدّة.. منظر مدهش مثير
للسماء والنجوم والكواكب.. الرطوبة تغلّف الكون، والسحب تتكاثف بشدة حول
رأسه وجسده، وطيور ضخمة تجدّف بأجنحتها عبر السحب المتراكمة.. على الرغم من
أن العالم (س) يعرف أن جهازه قد اخترق الراهن إلى الماضي السّحيق، فقد
أصابته رعدة قاسية جرّاء ما رأى.. ارتدَّ عن مخاوفه بعد فترة متذكراً مهمته
العظيمة.. عمد إلى التربة الرخوة جداً، غرس فيها إحدى بيوض الجرادة
المشوهة، وعلى بعد أمتار غرس ثانية وثالثة.. عندما دفن البيضة الأخيرة،
وأهال عليها التراب اللزج، فرك كفيّه بشدّة، وتمتم بارتياح كبير.. لقد
انتهت المهمّة، وغمرت وجهه ابتسامةً مفاجئة.. قال في داخله: سأبني التاريخ
من جديد، وبطريقة أكثر إتقاناً.
ألقى
نظرة شاملة عميقة على هذا العالم المغرق في القدم.. ملايين السنين تسبق
الراهن.. هزّ رأسه.. ثبّت ناظريه على ((جهاز اختراق الزمن))، وهو يفكر في
الجراد، مفترضاً أنه خلال ملايين السنين القادمة إلى الراهن وما بعده،
سيكبر حجمه.. قد يغدو بحجم الإنسان، وسصبح له دماغ يفكر به، ويقود
تصرّفاته... ترى.. ماذا سيحدث آنذاك؟؟ّّ هل سيتعايش الإنسان معه؟.. هل
يرفضه لأنه عنصر غريب؟؟.. هل سيندفع الإنسان ليتحد مع أخيه الإنسان ضد عنصر
غريب؟؟..مطّ شفتيه.. ازورّت عيناه.. شحب لون وجهه، وقفزت إلى رأسه أفكار
جنونيّة.. ترى.. أيمكن للجراد أن يحكم العالم فيمنع حصول حرب عالمية رابعة،
كتلك التي دمرت الكون والإنسان..
***
انحنى
فوق جهازه العجيب، ضغط زرّ القيادة والعقل الألكتروني فيه.. حدّد المسار
بملايين السنين نحو تجاوز الراهن.. هدر الجهاز من جديد، تحوّلت الأصوات
الرتيبة الصادرة عنه إلى أصوات مزعجة، إشارات ضوئية، اهتزازات متداخلة..
أصوات تعلو وتهبط.. مؤشّر الاحداثيات الزمنية يتحرّك.. يتصاعد.. يتجّه إلى
الأمام بلا توقّف.. توحّد العالم (س) مع جهازه.. تماهى معه في غمرة الزمن
المتصاعد.. بلغا معاً مشارف النهاية.. توقّف مؤشر الإحداثيّات الزمنية عند
نقطةٍ ابتعدت ملايين السنين عن زمن الديناصور والسلاحف والتربة الرخوة..
تجاوز الراهن بأشواط بعيدة.. نفث الجهاز رائحة كريهة، وأطلق ضوءاً يبهر
الأبصار..
توقّف
(( جهاز اختراق الزمن)) عن المسير.. انتبه العالم (س) من ذهوله ليجد نفسه
في مدينة غريبة جداً لم يألفها من قبل.. لم تكن المدينة مسكونة بالإنسان..
مبانيها معدنيّة باردة.. شوارعها جليديّة تخترقها أنفاق كثيرة مظلمة.. تمخر
فيها وسائط نقل تسير بقدرة ذاتية.. الهواء من حوله لزج يصعب تنفسّه،
تخالطه روائح كريهة تخرّب الصدور..
أيقن أن
جهازه قد اخترق الزمن نحو الأمام بمقدار ملايين السّنين، وراح ينتظر نتائج
الراهن الجديد الذي بعث فيه الحياة.. اضطربت روحه بين الأمل والخوف.. فجأة
بدت لعينيه أعداد مذهلة من الجراد.. كبيرة بحجم الإنسان، إلا أنها ليست
كالجراد المألوف.. لا تطير، بل تمتطي متن عربات مدرّعة غريبة هي الآخرى..
كانت الجرادة ذات قوائم عديدة، بشعة المنظر، صارمة النظرات، عيونها موزّعة
في سائر أنحاء جسدها، ورأسها ملطّخ ببقع تتغيّر ألوانها بين الفينة
والفينة، وتصدر عنها أصوات لم يألفها العالم (س) في عالم الأصوات
المعروفة...
تقدَّم
العالم (س) قليلاً إلى الأمام .. ترجَّل الجراد من عرباته ... نظر العالم
(س) إلى الجراد نظرات متسائلة، كان الأمل قد سيطر على روحه وأعصابه، وتلاشى
منه الاضطراب والخوف.. صمت مطبق لفترة قليلة..خرج العالم (س) عن صمته،
ابتسم بمودّة.. حار في أمره.. ماذا يفعل!! تساءَل في داخله:هل يفهم الجراد
اللغة الآدميّة؟.. هل يعرف معنى الابتسام.. أدرك أن عليه أن يفعل شيئاً..
أليس هو الذي قاد الحياة إلى هذا الموقف.. تذكّر اختراعه.. رفع يده إلى
رأسه مشيراً بالتحيّة الإنسانية المعهودة.. انتظر... لم يفعل الجراد
شيئاً.. ظلّ حاملاً على شفتيه تلك الإبتسامة البلهاء.. خرج عن صمته.. أعاد
التحيّة مرة أخرى.. قال: (( أنا أنسان..أنا العالم (س).. أنتم جراد..جراد
بحجم كبير.. أنا.. أنا.. حولتكم إلى هذا الشكل العظيم، وأشار بيده إلى
الجهاز.. كنتم في الأحقاب السابقة حشراتٍ صغيرةً ضعيفة، أمّا الآن، فأنتم..
ما شاء الله.. حشرات عملاقة.))
استمر الجراد صامتاً عابساً، يحدّق في تينك العينين الخائفتين والشّفتين المتحركتين، والقامة المنتصبة...
العالم
(س) يتابع حديثه بحذر شديد، ويشير إلى الجهاز... فجأة أحسَّ أنَّ قلبه يغور
في جوفه، إذ رأى أن تلك الحشرات العملاقة بدأت تتحّرك حركات رتيبة، مشكلّة
حلقة واسعة تحيط به تضيق وتضيق.. أحسَّ بالموت، وأن الحرب العالمية
الثالثة لم تنته بعد.. حاول الهروب.. لم يستطع، لأن جرادة ضخمة انقضّت عليه
ومنعته من الحركة.. تساءَل: ترى ألا مفرَّ من تنامى الشرّ والعدوان في هذا
العالم؟!..عجز عن التفكير السليم عندما أحسّ أنّ إشعاعاً حارقاً ينبعث من
عيون الحشرات العملاقة، بينما كانت حلقة الجراد تضيق من حوله.. مد يده خلسة
محاولاً ضغط زرّ القيادة في جهازه.. لم يستطع.. لقد تعطّل الجهاز.. عندئذ
أيقن العالم (س)، بكل جوارحه.. أن الجراد أصبح يحكم العالم...