سبحان الله ,, و الحمد لله ,, و الله أكبر ,, و لا إله إلا الله
الحمد لله رب العالمين
الملك المليك المقتدر الوهَّاب المستعان الرحيم الرحمن ، عالم الغيب
والشهادة الكريم الرحيم الغفور المنَّان ، وأصلي وأسلِّمُ على خير مبعوثٍ
للأنام ، محمد ابن عبد الله القرشي الهاشمي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم البعث والنشور وحضور الملائكة والأنبياء
والناس والجان.
أما بعد......
إنَّ الدنيا خصامٌ في خصامٍ ، خِصامُ المعاملات والعلاقات والمُشاحنات
والرغبة والرهبة في الأمور المتشابهات والمختلفات ، وكما هي الدنيا كذلك
الآخرة فيها خصام لكنَّهُ ليس كخصام الدنيا ، بل هو خصامٌ فريدٌ وعذابٌ
شديدٌ وتذكرة لأولي الألباب لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد...
سقول تعالى : (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ
النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ
وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ
مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(44)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم
بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ(45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ
رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ
أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ(46) وَإِذَا
صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا
لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(47) وَنَادَى أَصْحَابُ
الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى
عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ(48) أَهَـؤُلاء
الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ
الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ(49) وَنَادَى
أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ
الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا
عَلَى الْكَافِرِينَ(50) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً
وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ
كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا
يَجْحَدُونَ(51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ
هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ
تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن
قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء
فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا
نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ
يَفْتَرُونَ(53) سورة الأعراف
يالَهُ من خصامٍ شديدٍ بين أهل الجنة الذين كانوا في نور ودخلوا في نورٍ
دائمٍ ، وبين أهل النار الذين كانوا في الظلمات وفي طُغيانهم يعمهون فذهبوا
إلى الجحيم الأسود والنار والعذاب والنكال ، وسبحان الله !! فهؤلاء
يُحاجَّون هؤلاء وهؤلاء يُحاجَّونَ كُلٌّ بحجَّتِهِ ولله الأمر من قبل ومن
بعد..
لقد نادى أصحاب الجنة أهل النار ( أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ) لاحظ
قال هُنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا لأن الله وعدهم على لسان الأنبياء وفي
ذكر القرآن فكان الوعد مُضافًا لهم ونالوه بإذن الله ، ولكن قال عن أهل
النار ( فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) ولم يقل ما وعدكم ؟ لأنَّ هؤلاء كانوا
مُكَذِّبين بالوعد الإلهي ولم يؤمنوا بالقرآن ولا النبي ولا ما أنْزِل
إليه فأضاف الوعد إلى الله ولم يجعل لهم فصار كأنَّهُ وعيدٌ ، ففصل الله
بينهم باللعنة على المكذبين الظالمين الذين جحدوا بآيات الله وحاق بهم ما
كانوا به يستهزئون .
وذكر الله حِجابًا وهو حاجز وقيل تلٌّ وقيل سورٌ بين النار والجنة يقِفُ
عليه من تساوت حسناتُهم وسيئاتُهُم، فلم يدخلوا النار بحسناتهم ولم يدخلوا
الجنة بذنوبهم ، فوقفوا للفصل ، فلمَّا رأوا أهل النار خافوا وقالوا ربنا
لا تجعلنا مع القوم الظالمين فقد عرفوا أهل النار بسواد الوجوه وصراخهم من
العذاب الأليم ، وعرفوا أهل الجنة ببياض وجوههم والنعيم الدائم فطلبوا من
الله أن يُدْخِلهم الجنان معهم.
ونظر أصحاب الأأعراف إلى جماعة من أهل النار مُتَكَبِّرين في الدنيا صِغارٍ
مُهانين في الآخرة فقالوا لهم ( ما أغنى عنكم جمعكم ؟ وما كنتم تستكبرون ؟
) أي ماذا أغناكم كثرة الأولاد والبنين والأهل والأصحاب والأموال التي
كنتم تستكبرون بها على الناس في الدنيا ؟
هل أغنت غنكم شيئا من العذاب ؟ ثم قالوا ( أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم
الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ) قيل عن أصحاب
الجنة أنَّهم دخلوا الجنة رُغمًا عنكم ، لقد كنتم تظنُّونهم صِغارًا ضعفاء
أراذِلَ في نظركُم ولكنَّهم عند الله هم الفائزون كما قال تعالى :
(إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ
رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ(109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ(111) سورة المؤمنون
وقيل بل هو المقصود به أهل الأعراف أي سيدخلون الجنة برحمة الله ، وليس كما
زعم الكافرون أنَّ الأكابر لا يدخلون النار وقالوا (وَقَالُوا نَحْنُ
أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) سورة سبأ
آية 35
فرَدَّ الله عليهم وكَذََبَ زعمهم ودحضه (قُلْ إِنَّ
رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم
بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي
الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ(37) سورة سبأ
أي ليس كما تزعمون أنَّ إمدادَكُم في الدنيا بكثرة الأموال والأولاد دليلٌ
على محبتِكم فإنَّ الله يُعطي الدنيا لمن أحب ولمن لا يُحِبُّ ولا يُعطي
الآخرة إلَّأ لمن أحبَّ.
وبعد أنْ عايَنَ أهل النارِ العذاب الأليمَ والطعام السيِّءَ المذاقِ وغصَّ
في حُلقومِهِمُ الغساق نادوا أصحاب الجنة ( أن أفيضوا علينا من الماء أو
مِمَّا رزقكم الله )
بل في هذا الحال الشديد يكونُ ردُّ المؤمنين عليهم أشَدَّ ( قالوا إنَّ
الله حَرَّمَهُما على الكافرين ) أي لا يأكلُ الطعام اللذيذ ولا يشربُ
الماء العذب من كان مُكَذِبًا بالله ورسُلِهِ.
انظر رعاك الله إلى خصام أهل النار بينهم (هَذَا فَوْجٌ
مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا
النَّارِ(59) قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ
قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ(60) قَالُوا رَبَّنَا مَن
قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ(61) وَقَالُوا
مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ(62)
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ(63) إِنَّ
ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ(64) سورة ص
وكما قال بعض المفسرين أنَّ سورة الأعراف نزلت بعد سورة ص فانظر رحمك الله
إلى ترابط القرآن الكريم فهذه السورة بدأت بحرف (ص) والأعراف بدأت بـ
(المص) فسبحان الله كُتابٌ معجِزٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
تنزيل من حكيم حميد.
عندما يدخل الناس على بعضهم فهل يُسَلِّمون بتحية الإسلام السلام عليكم
ورحمة الله وبركاته ، لكنَّ أهل النار مختلفون فهم يلعنون بعضهم ولا
يُرَحِّبونَ ببعض،
قالوا بل انتم لا مرحبا بكم ، أي يا من دعانا إلى الضلال ولم يهْدِنا سواء
السبيل لا مرحبا بكم في جهنم بئس المستقر وبئس المهاد ، ولِأنِّ الكفارَ
ضالُّون عن سواء السبيل فهم يظنُّونَ أنَّ المؤمنين معهم في النار فيقولون «
وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت
عنهم الأبصار » أي أين الضعفاء الأراذل الذين كُنا نستضعفهم في الدنيا
ونُؤذيهم ونُهينُهم ونضربهم ونجعلهم في الأشغال الشاقة ؟ أليسوا معنا ؟
وهؤلاء هم المؤمنون الذين عملوا الصالحات فصاروا في الجنان مُنَعَّمين
ولكنَّ أهل النار في ضلالِهم يعتقدون أن المؤمنين أشرارٌ فيجبُ أن يدخلوا
النار ، لكنَّ الله العظيم الحكيم يأبى إلَّا أن يتُمَّ نورهُ ولو كره
الكافرون.
( أم زاغت عنهم الأبصار ) يُحتَمَلُ أنَّهم يقصدون أنَّنا لم نراهُم
لكنَّهم معنا في النار على أية حال ، ولكنَّ بما أنَّ النارَ كبيرةٌ ( لا
يعلمُ عظمها إلَّا الله ) فلابُدَّ أنَّهُم موجودون معنا ، يحاولون أن
يتَسَلُّوا بينهم بهذه الأقوال التي لا تُسمنُ ولا تغني من جوعٍ ، ويُحتمل
أنَّهُم يقصدون أنََّ الملائكة لم تَرَهُم فلمْ تُدْخِلْهُم النار وهذا
أيضًا من سوءِ ظَنِّهِم فإنَّ الملائكة عباد الله المكرمون لا يعصون أمره
ويفعلون ما يأمرون ، فهُم يُحصون أهل النار ويسحبونَهُم إليها دونَ تأخيرٍ.
ثم يقول الله في آخر الآية إنَّ ذلك لحقٌّ تخاصم أهل النار ، أي هو حقٌّ لا
شك فيه وسوف يُعاينِنُهُ الجميع يوم القيامة ، ويقعُ ذكر القيامة في
الآيات على سبيل الماضي لأنَّهُ واقع الحدوث لا محالة ، وإخبار الله بصيغة
الماضي في القرآن مشهور كقوله تعالى ( إذا جاء نصر الله والفتح ) ، وقوله (
وجاء ربك والملك صفا صفا ) وقوله ( ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة )
الآية.. وغيره..
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على نبيِّه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .