سبحان الله ,, و الحمد لله ,, و الله أكبر ,, و لا إله إلا الله
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد غزوة أحد أظلت المدينة سحابة حزن لفقد الأحبة شهداء في سبيل الله..
وخيم السكون حيناً على الجزيرة العربية. ولم يكن ذلك الهدوء الذي أظل
المدينة إلاّ بداية لتحزب الأحزاب من ملل الكفر والشرك، يتحينون الفرص
ويسابقون إلى العداوة! فلا يهنأ لهم بال ولا يقر لهم قرار حتى يكون معقل
الإسلام ومدينته تحت أيديهم يجوسون فيها تقتيلاً وإفساداً. {وَمَا نَقَمُوا
مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سورة
البروج: 10].
في السنة الخامسة للهجرة خرجت شرذمة من اليهود نحو كفار مكة ليأنبوهم
ويحرضوهم على غزو المدينة، ومحاولة استئصال شأفة الإسلام، وقتل محمد صلى
الله عليه وسلم، والتنكيل بأصحابة! ثم خرج الرهط يحمل الحقد والكراهية
للمسلمين نحو غطفان ليكتمل عقد الأحزاب.
وتداعت الجموع وأقبل الشر بخيله ورجله، فخرجت من الجنوب قريش وكنانة وأهل
تهامة، ووافاهم بنو سليم وخرجت من الشرق قبائل غطفان وكذلك خرجت بنو أسد.
واتجهت الأحزاب الكافرة صوب المدينة حتى تجمع حولها جيش عرمرم يبلغ عدده
عشرة آلاف مقاتل! جيش يزيد عدده على سكان المدينة رجالاً ونساءاً، صغاراً
وكباراً! في جوع منهم شديد، وبرد وزمهرير، وعدة قليلة، وما عند الله خير
وأبقى!
إجتمع الأحزاب حول المدينة لسبب واحد لا غير وإن اختلفت الألسن {وَلاَ
يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ
اسْتَطَاعُواْ} [سورة البقرة: 217].
وفي هذا الجو المكفهر والكرب الشديد إنقسم أهل المدينة إلى قسمين: قسم آمن
بوعد الله وصدق بنصر رسالته {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ
قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [سورة
الأحزاب: 22].
فشدوا للقتال وقدموا المهج والأرواح وبذلوا الأسباب بحفر الخندق وحراسة
المدينة ليل نهار مع ما أصابهم من الجوع والفاقة، فقد كان طعام الجيش
قليلاً من الشعير يخلط بدهن سنخ متغير الرائحة لقدمه، ويطبخ فيأكلونه رغم
طعمه الكرية ورائحته المنتنة لفرط الجوع، وأحياناً لا يجدون سوى التمر وقد
يلبثون ثلاثة أيّام لا يذوقون طعاماً! وكان أشد أمر عليهم نجم النفاق وفشل
النّاس وعظم البلاء واشتداد الخوف وخيف على الذراري والنساء فقد أحاطوا
بالجميع وادلهم الخطب بالأمة {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ
أَسْفَلَ مِنكُمْ} [الأحزاب:10]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في هذا
الوقت العصيب يبشرهم بأمر عظيم! قال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا
في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول صلى الله
عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: «بسم الله، ثم ضرب ضربة، وقال: الله
كبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إنّي لأنظر إلى قصورها الحمر الساعة، ثم
ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت فارس، والله إنّي لأبصر قصر
المدائن الآن، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله
أكبر أعطيت مفاتح اليمن، والله إنّي لأبصر صنعاء من مكاني».
والنبي صلى الله عليه وسلم يبشر ويرفع من عزائم الصحابة وكان أحدهم من شدة
الجوع يرفع عن بطنه الحجر فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه
الشريف حجرين!
وأمّا أهل النفاق وضعفاء النفوس ممن أثّر فيهم الإرجاف فقد تزعزعت قلوبهم
وانخلعت صدورهم لرؤية الجموع والعدد والعدة {وَإِذْ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [سورة الأحزاب: 13]. وقال المنافقون
في ما بشر النبي صلى الله عليه وسلم من خزائن كسرى وقيصر: كان محمد يعدنا
أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى
الغائط، وقالوا تنصلاً من الجهاد وهرباً منه: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ
مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ
بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [سورة الأحزاب: 113].
واشتغل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقارعة العدو وأخذ العدة وحفر
الخندق حتى فاتت المسلمين بعض الصلوات، ففي الصحيحين أنّ عمر بن الخطاب رضي
الله عنه جاء يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش، فقال: يا رسول الله! ما كدت
أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله ما
صليت» وقد أهم النبي صلى الله عليه وسلم فوات الصلاة فدعا عليهم «ملأ الله
عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس»،
وبقيت الساعات العصيبة أيّاما وليال وزادها سوء نقض بني قريظة العهد مع
الرسول صلى الله عليه وسلم فاكتمل عقد الأحزاب حول المدينة الصامدة! ولما
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدر بني قريظة تقنع بثوبه واضطجع ومكث
طويلا حتى اشتد على النّاس البلاء ثم نهض يقول: «الله أكبر، أبشروا يا معشر
المسلمين بفتح الله ونصره»! وسعى النبي صلى الله عليه وسلم لمجابهة الظرف
العصيب وأن يفرق جمعهم فأراد أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة حتى
ينصرفوا وتخف الوطأة على المسلمين فيلحقوا بقريش الهزيمة.
واستشار صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عباده رضي الله عنهما في
الأمر، فقالا: يا رسول الله؛ إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً لله وطاعة، وإن
كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك
بالله وعبادة الأوثان وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلاّ قرى أو
بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك تعطيهم أموالنا؟
والله لا نعطيهم إلاّ السيف. فصوب رأيهما وقال: «إنّما هو شيء أصنعه لكم،
لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة».
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأيّام الصعبة يبعث الحرس إلى
المدينة لئلا تؤتى الذراري والنساء على حين غرّه! فالأمر مهول والأحزاب
تسمع أصواتهم، والنبال تصل إلى خيل المسلمين! وقد وصف الله عز وجل تلك
الساعات العصيبة بوصف عجيب كأن العين تراهم، فقال تعالى: {وَإِذْ زَاغَتْ
الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً
شَدِيداً} [سورة الأحزاب: 10- 11].
ولما أمر الله عز وجل بانجلاء الغمة وتفريج الكربة صنع أمراً من عنده، خذل
به العدو وهزم جموعهم وفل حدهم، وساق نعيم بن مسعود للتفريق بينهم! والنبي
صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إلى السماء «اللّهم منزل الكتاب سريع الحساب،
اهزم الأحزاب، اللّهم اهزمهم وزلزلهم» وكان المسلمون يدعون ربهم "اللهم
استر عوراتنا وآمن روعاتنا".
فاستجاب الله الدعاء وبلغ الأمل وأذن بالنصر، و أرسل جنوداً من الرعب
والريح قلبت قلوبهم وقدورهم، وقوضت قوتهم وخيامهم ودفنت رحالهم وآمالهم،
فلم تدع قدراً إلاّ كفأتها ولا طنباً إلا قلعته! ولا قلباً إلاّ أهلعته
وأرعبته.
وبعد معركة الأحزاب أزفت البشائر وأشرقت المدينة، بقول النبي صلى الله عليه
وسلم: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم»، وفي اجتماع الأحزاب في
أزمنة متفرقة ومرات عديدة خلال العصور، حكمة بالغة في الرجوع إلى الله،
وصدق التوكل عليه، والإنابة والذل وإظهار الحاجة، وبذل الغالي لهذا الدين،
قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}
[سورة التوبة: 32].
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن ظن إزالة أهل الكفر على أهل الإسلام إزالة
تامة فقد ظن بالله السوء". وعلى مر العصور وتقلب الدهور قول الصادق صلى
الله عليه وسلم «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والتمكين»، لكن الأمر مشروط
بشروطه، ومقيد بقيوده {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [سورة محمد:
17].
بعد غزوة أحد أظلت المدينة سحابة حزن لفقد الأحبة شهداء في سبيل الله..
وخيم السكون حيناً على الجزيرة العربية. ولم يكن ذلك الهدوء الذي أظل
المدينة إلاّ بداية لتحزب الأحزاب من ملل الكفر والشرك، يتحينون الفرص
ويسابقون إلى العداوة! فلا يهنأ لهم بال ولا يقر لهم قرار حتى يكون معقل
الإسلام ومدينته تحت أيديهم يجوسون فيها تقتيلاً وإفساداً. {وَمَا نَقَمُوا
مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سورة
البروج: 10].
في السنة الخامسة للهجرة خرجت شرذمة من اليهود نحو كفار مكة ليأنبوهم
ويحرضوهم على غزو المدينة، ومحاولة استئصال شأفة الإسلام، وقتل محمد صلى
الله عليه وسلم، والتنكيل بأصحابة! ثم خرج الرهط يحمل الحقد والكراهية
للمسلمين نحو غطفان ليكتمل عقد الأحزاب.
وتداعت الجموع وأقبل الشر بخيله ورجله، فخرجت من الجنوب قريش وكنانة وأهل
تهامة، ووافاهم بنو سليم وخرجت من الشرق قبائل غطفان وكذلك خرجت بنو أسد.
واتجهت الأحزاب الكافرة صوب المدينة حتى تجمع حولها جيش عرمرم يبلغ عدده
عشرة آلاف مقاتل! جيش يزيد عدده على سكان المدينة رجالاً ونساءاً، صغاراً
وكباراً! في جوع منهم شديد، وبرد وزمهرير، وعدة قليلة، وما عند الله خير
وأبقى!
إجتمع الأحزاب حول المدينة لسبب واحد لا غير وإن اختلفت الألسن {وَلاَ
يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ
اسْتَطَاعُواْ} [سورة البقرة: 217].
وفي هذا الجو المكفهر والكرب الشديد إنقسم أهل المدينة إلى قسمين: قسم آمن
بوعد الله وصدق بنصر رسالته {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ
قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [سورة
الأحزاب: 22].
فشدوا للقتال وقدموا المهج والأرواح وبذلوا الأسباب بحفر الخندق وحراسة
المدينة ليل نهار مع ما أصابهم من الجوع والفاقة، فقد كان طعام الجيش
قليلاً من الشعير يخلط بدهن سنخ متغير الرائحة لقدمه، ويطبخ فيأكلونه رغم
طعمه الكرية ورائحته المنتنة لفرط الجوع، وأحياناً لا يجدون سوى التمر وقد
يلبثون ثلاثة أيّام لا يذوقون طعاماً! وكان أشد أمر عليهم نجم النفاق وفشل
النّاس وعظم البلاء واشتداد الخوف وخيف على الذراري والنساء فقد أحاطوا
بالجميع وادلهم الخطب بالأمة {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ
أَسْفَلَ مِنكُمْ} [الأحزاب:10]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في هذا
الوقت العصيب يبشرهم بأمر عظيم! قال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا
في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول صلى الله
عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: «بسم الله، ثم ضرب ضربة، وقال: الله
كبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إنّي لأنظر إلى قصورها الحمر الساعة، ثم
ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت فارس، والله إنّي لأبصر قصر
المدائن الآن، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله
أكبر أعطيت مفاتح اليمن، والله إنّي لأبصر صنعاء من مكاني».
والنبي صلى الله عليه وسلم يبشر ويرفع من عزائم الصحابة وكان أحدهم من شدة
الجوع يرفع عن بطنه الحجر فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه
الشريف حجرين!
وأمّا أهل النفاق وضعفاء النفوس ممن أثّر فيهم الإرجاف فقد تزعزعت قلوبهم
وانخلعت صدورهم لرؤية الجموع والعدد والعدة {وَإِذْ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [سورة الأحزاب: 13]. وقال المنافقون
في ما بشر النبي صلى الله عليه وسلم من خزائن كسرى وقيصر: كان محمد يعدنا
أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى
الغائط، وقالوا تنصلاً من الجهاد وهرباً منه: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ
مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ
بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [سورة الأحزاب: 113].
واشتغل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقارعة العدو وأخذ العدة وحفر
الخندق حتى فاتت المسلمين بعض الصلوات، ففي الصحيحين أنّ عمر بن الخطاب رضي
الله عنه جاء يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش، فقال: يا رسول الله! ما كدت
أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله ما
صليت» وقد أهم النبي صلى الله عليه وسلم فوات الصلاة فدعا عليهم «ملأ الله
عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس»،
وبقيت الساعات العصيبة أيّاما وليال وزادها سوء نقض بني قريظة العهد مع
الرسول صلى الله عليه وسلم فاكتمل عقد الأحزاب حول المدينة الصامدة! ولما
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدر بني قريظة تقنع بثوبه واضطجع ومكث
طويلا حتى اشتد على النّاس البلاء ثم نهض يقول: «الله أكبر، أبشروا يا معشر
المسلمين بفتح الله ونصره»! وسعى النبي صلى الله عليه وسلم لمجابهة الظرف
العصيب وأن يفرق جمعهم فأراد أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة حتى
ينصرفوا وتخف الوطأة على المسلمين فيلحقوا بقريش الهزيمة.
واستشار صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عباده رضي الله عنهما في
الأمر، فقالا: يا رسول الله؛ إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً لله وطاعة، وإن
كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك
بالله وعبادة الأوثان وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلاّ قرى أو
بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك تعطيهم أموالنا؟
والله لا نعطيهم إلاّ السيف. فصوب رأيهما وقال: «إنّما هو شيء أصنعه لكم،
لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة».
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأيّام الصعبة يبعث الحرس إلى
المدينة لئلا تؤتى الذراري والنساء على حين غرّه! فالأمر مهول والأحزاب
تسمع أصواتهم، والنبال تصل إلى خيل المسلمين! وقد وصف الله عز وجل تلك
الساعات العصيبة بوصف عجيب كأن العين تراهم، فقال تعالى: {وَإِذْ زَاغَتْ
الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً
شَدِيداً} [سورة الأحزاب: 10- 11].
ولما أمر الله عز وجل بانجلاء الغمة وتفريج الكربة صنع أمراً من عنده، خذل
به العدو وهزم جموعهم وفل حدهم، وساق نعيم بن مسعود للتفريق بينهم! والنبي
صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إلى السماء «اللّهم منزل الكتاب سريع الحساب،
اهزم الأحزاب، اللّهم اهزمهم وزلزلهم» وكان المسلمون يدعون ربهم "اللهم
استر عوراتنا وآمن روعاتنا".
فاستجاب الله الدعاء وبلغ الأمل وأذن بالنصر، و أرسل جنوداً من الرعب
والريح قلبت قلوبهم وقدورهم، وقوضت قوتهم وخيامهم ودفنت رحالهم وآمالهم،
فلم تدع قدراً إلاّ كفأتها ولا طنباً إلا قلعته! ولا قلباً إلاّ أهلعته
وأرعبته.
وبعد معركة الأحزاب أزفت البشائر وأشرقت المدينة، بقول النبي صلى الله عليه
وسلم: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم»، وفي اجتماع الأحزاب في
أزمنة متفرقة ومرات عديدة خلال العصور، حكمة بالغة في الرجوع إلى الله،
وصدق التوكل عليه، والإنابة والذل وإظهار الحاجة، وبذل الغالي لهذا الدين،
قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}
[سورة التوبة: 32].
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن ظن إزالة أهل الكفر على أهل الإسلام إزالة
تامة فقد ظن بالله السوء". وعلى مر العصور وتقلب الدهور قول الصادق صلى
الله عليه وسلم «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والتمكين»، لكن الأمر مشروط
بشروطه، ومقيد بقيوده {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [سورة محمد:
17].