بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ
المتمعن في كثير من مفردات اللغة العربية تمعناً دقيقاً ، ووالناظر إليها
نظرةً فاحصةً عميقة ،يجد أن هذه المفردات في كثير من أحوالها قد صيغت من
مصادر فطرية بسيطة للغاية. ولنأخذ بعض الكلمات على سبيل المثال : فنرى أن
الكلمات التالية :" بابا و ماما" أُخذت من صوت الطفل الرضيع وهو يلفظ
كلماته الأولى ويردد بصوته الطفولي : با .. با ، ما .. ما .. ومن هذه
الأصوات جاءت كلمتا أب وأم ، وكل ما أُشتق منهما فيما بعد كالأبوّة
والأمومة وغيرها من الكلمات .
وفي أسماء الأصوات ، ونحن نعرف أن
للحيوانات أصواتاً ، وللطيور والزواحف وغيرها ، نجد أن هذه الأسماء أُخذت
أيضاً على الطريقة السابقة . فمواء القط مأخوذٌ من صوته موء .. موء ..
وعواء الذئب وابن آوى مأخوذ من أصواتهما : عو .. عو .. وكثيراً ما أقلقت
أصوات هذه الحيوانات الإنسان البدائي في صحرائه وفي كهفه ومسكنه .
ونحن نقول سقسقة العصافير ، أليست هذه الكلمة مأخوذة من صوت العصافير : سِقْ .. سِقْ .. وهي تغرّد على الأشجار .
وتكتكة
الساعة ، وطقطقة الأواني ، ووعوعة الطفل ، ورنين الأجراس وخرير المياه ،
وصرير الباب ، ونقيق الضفدع ، وطنين البعوض والذباب وغيرها كثير أُخذت
جميعاً من أصوات هذه الأشياء ، أو من الأصوات التي تُحدثها وتُسمع عنها .
وقد جاءت الأصوات على عدة أوزان صرفية منها :
1- فَعِيل : كفحيح ، وخرير ، وصفير وغيرها .
2- فُعَال : كبُكَاء ، عُواء ، ونُباح وغيرها ، أما صياح فقد كُسرت فاؤها لإستثقال الضمة قبل الياء .
3- فَعْل : كهَمْس ، وجَرْس ، وخَفْق وغيرها .
4- فَعْلَلَة : كطَنْطَنَة ، وغرغرة ، وقضقضة ، وشقشقة وغيرها .
ولو
تتبّعت معظم أسماء الأصوات لوجدتها تتبع هذه القاعدة ولا تشذّ عنها ،
وكلمة صوص أُطلقت على الكتكوت الصغير من شكل صوته المتكرر : صو .. صو ..
وكذلك الحال في العديد من مفردات اللغة العربية ، وإن دلَّ ذلك على شيء ،
فإنّما يدلّ على عراقة هذه اللغة وإيغالها في القِدَم ، حيث أعطى الإنسان
البدائي الأول هذه الأسماء لكثير من الأشياء والمُسمّيات كما سمعها بالفطرة
، وتعلّمها بالسليقة ، دون أن يتكلّف في وضعها وصياغتها ، ودون أن يخترعها
إختراعاً أو يكدّ ذهنه وفكره لوضعها وإطلاقها على مسمّياتها . إنما جاءت
تلقائية معبّرة بشكل تامّ عن المعنى الذي أراد لها أن تعبّر عنه . وبقيت
بعده ميراثاً ثميناً يحفظهُ أبناؤه وأحفاده ، ويردّدونه جيلاً بعد جيل .
والعبرة
من هذا الحديث – عزيزي القارئ – هي أن تستنتج أن لغتك العربية موغلةٌ في
القِدم ، عميقة الجذور ، أصيلة المعاني ، تكاد تسمو على اللغات جميعاً ،
وأن بعض مفرداتها الفطرية البسيطة تستعمل في معظم لغات العالم الحي ، كلفظة
أب وأم وغيرها .