سبحان الله ,, و الحمد لله ,, و الله أكبر ,, و لا إله إلا الله
تفسير سورة المسد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فمن سور القرآن العظيم التي تتكرَّر على أسماعنا، وتحتاج منا إلى تأمُّل وتدبُّر، سورةُ المسد، قال - تعالى -:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 1 - 5].
روى البخاري ومسلم في
صحيحيهما، من حديث ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: صعد النبيُّ - صلى
الله عليه وسلم - الصفا ذات يوم، فقال: ((يا صباحاه))، فاجتمعتْ إليه قريشٌ، قالوا: ما لك؟ قال: ((أرأيتم لو أخبرتُكم أن العدوَّ يصبِّحكم أو يمسيكم، أمَا كنتم تصدِّقونني؟))، قالوا: بلى، قال: ((فإني نذيرٌ لكم بين يَدَيْ عذابٍ شديد))، فقال أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا جمعتَنا؟! فأنزل الله:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾[1]،
وفي رواية أن أبا لهب قال:
"تبًّا لك سائر اليوم"[2].
قوله - تعالى -:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾:
الأول: دعاء عليه،
والثانية: خبرٌ عنه، وأبو لهب هذا هو أحد أعمام رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - واسمُه عبدالعزى بن عبدالمطلب، وكنيتُه أبو عتبة؛ وإنما سمِّي أبا
لهب لإشراق وجْهه، وكان كثيرَ الأذية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
والبغض له، والازدراء به، والتنقص له ولدينه.
روى الإمام أحمد في
مسنده من حديث ربيعةَ بنِ عباد الديلي - وكان جاهليًّا أسلم - قال: رأيت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَصَرَ عيني بسوق ذي المجاز يقول:
((يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، تُفلحوا))
ويدخل في فجاجها، والناس متقصِّفون عليه، فما رأيت أحدًا يقول شيئًا، وهو لا يسكت يقول:
((أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا))،
إلا أن وراءه رجلاً أحول، وضيءَ الوجه، ذا غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب،
فقلتُ: مَن هذا؟ قالوا: محمد بن عبدالله، وهو يذكر النبوة، قلت: من هذا
الذي يكذِّبه؟ قالوا: عمُّه أبو لهب[3].
• قوله - تعالى -:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾:
التباب هو الخسار، كما قال - تعالى -:
﴿ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾
[غافر: 37]؛
أي: خسار، وبدأ بيديه قبل ذاته؛ لأن اليدين هما آلتا العملِ والحركة، والأخذِ والعطاء، وما أشبه ذلك.
• قوله - تعالى -:
﴿ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾:
أي: ماله وما كسب لن يغني عنه شيئًا من عذاب الله، والآية تشمل الأولادَ،
وتشمل المالَ المكتسَب الذي ليس في يده الآن، وتشمل ما كسَبه من شرفٍ
وجاهٍ، وكل ما كسبه مما يزيده شرفًا وعزًّا، فإنه لا يغني عنه شيئًا، كما
قال - تعالى -:
﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 28، 29]،
وكما قال - تعالى -:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ
وَقُودُ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 10].
• قوله - تعالى -:
﴿ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾:
أي: ذات شررٍ ولهب وإحراق شديد، والمعنى أن الله توعَّده بأنه سيصْلَى
نارًا ذات لهب عن قريب؛ لأن متاع الدنيا والبقاء فيها مهما طال فإن الآخرة
قريبة، حتى الناس في البرزخ وإن مرَّت عليهم السِّنون الطوال، فكأنها ساعة،
قال - تعالى -:
﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ﴾ [الأحقاف: 35]،
وشيءٌ مقدَّر بساعة من نهار، فإنه قريب.
• قوله - تعالى -:
﴿ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴾:
يعني كذلك امرأته معه، وهي أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، وهي أخت أبي
سفيان، من أشراف قريش؛ لكن لم يُغنِ عنها شرفُها؛ لكونها شاركتْ زوجها في
العداء والإثم والبقاء على الكفر، وحمَّالة الحطب ذكروا أنها تحمل الحطب
الذي فيه الشوك، وتضعه في طريق النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من أجْل أذى
الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال بعض المفسرين: كما كانت عونًا على
زوجها في كفره، فإنها تحمل الحطب فتلقيه على زوجها في نار جهنم، فتكون
عونًا عليه في العذاب[4].
• قوله - تعالى -:
﴿ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾:
الجيد هو العنق، والحبل معروف، والمسد هو الليف؛ يعني: أنها متقلِّدةٌ
حبلاً من الليف تخرج به إلى الصحراء؛ لتربط به الحطبَ الذي تأتي به لتضعه
في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم[5].
قال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة، فقالت: لأنفقنَّها في عداوة محمد، فأعقبها الله بها حبلاً في جيدها من مسد النار[6].
روى البزار في مسنده من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ
﴾، جاءت امرأةُ أبي لهب ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جالسٌ ومعه
أبو بكر، فقال له أبو بكر: لو تنحيتَ لا تؤذيك بشيء، فقال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: ((إنه سيحال بيني وبينها))،
فأقبلتْ حتى وقفت على أبي بكر، فقالتْ: يا أبا بكر، هجانا صاحبُك، فقال
أبو بكر: لا وربِّ هذه البَنِيَّة، ما نطق بالشعر ولا يتفوَّه به، فقالت:
إنك لمصدَّق؟! فلما ولَّتْ، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: ما رأتْك؟ قال -
صلى الله عليه وسلم -:
((لا؛ ما زال ملَكٌ يسترني حتى ولَّت))[7].
قال العلماء: في هذه السورة معجزةٌ ظاهرة، ودليل واضح على النبوة؛ فإنه منذ نزل قوله - تعالى -:
﴿ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾،
فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان، ولم يقيَّض لهما أن يؤمِنَا، ولا واحد
منهما، لا ظاهرًا ولا باطنًا، لا سرًّا ولا علنًا، فكان هذا من أقوى الأدلة
الباهرة على النبوة الظاهرة[8].
أما أبو لهب، فقد مات شر ميتة، وانتقم الله لنبيِّه منه.
قال ابن إسحاق: بعد غزوة بدر بعدة ليالٍ، أصيب بمرض العدسة[9]
فمات، وخاف ابناه أن يقتربا منه ليدفناه فيصابا بالمرض، فتركاه ثلاثًا حتى
أنتن، فقال رجل من قريش: ويْحكما، ألا تستحيان؟ ادفنا أباكما! فقالا: نخشى
من هذه القرحة، فقال: أنا أعينكما عليه، فأخرجوه إلى الصحراء، فوالله ما
غسلوه إلا قذفًا بالماء من بعيد، ما يدْنون منه، ثم احتملوه إلى أعلى مكة،
فأسندوه إلى جدار ثم رموه بالحجارة[10]، وإلى جهنم وبئس المصير[11].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه : د.أمين بن عبدالله الشقاوي
في امان الله وحفظه
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
[1] ص 938، برقم 4801، وصحيح مسلم ص 114، برقم 208.
[2] صحيح البخاري، ص 271، برقم 1394.
[3] (25/ 404 - 405) برقم 16023، وقال محققوه: صحيح لغيره.
[4] "تفسير ابن كثير" (14/ 497).
[5] "تفسير جزء عم"، ابن عثيمين - رحمه الله - ص 351.
[6] "تفسير ابن كثير" (14/ 497).
[7] (1/ 68) برقم 15، وقال البزار: هذا الحديث حسن الإسناد، وحسنه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (8/ 738).
[8] "تفسير ابن كثير" (14/ 499).
[9] بثرة تشبه العدسة، تخرج في مواضع من الجسد تقتل صاحبها غالبًا، وهي من البثور المعدية، شبهها بعض المعاصرين بمرض الجدري.
[10] "عيون الأثر"، لابن سيد الناس (1/ 410).
[11] انظر: "تفسير جزء عم"، للشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - ص 349 - 352.