سبحان الله ,, و الحمد لله ,, و الله أكبر ,, و لا إله إلا الله
صوموا لعلكم تتقون
صالح بن عبد الله بن حميد
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي -أيها الناس- بتقوى الله، فالعز والشرف في التقوى، والسعادة والعلا عند أهل التقوى.
التقوى -أيها السلمون- كنز عظيم، وجوهر عزيز، خير الدنيا والآخرة مجموع فيها: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197]. والقبول معلق بها: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27]. والغفران والثواب موعود عليها: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) [الطلاق:5].. أهلها هم الأعلون في الآخرة والأولى:
(تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ
عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83].
غير أن أزمنتنا المتأخرة، وعصورنا
المادية كست قلوب أصحابها طبقات من الغفلة، وغشت على أبصارها سحب من الصدود
كثيفة، فعموا عن الطريق، وحسن ظنهم بالترقي في جاه الدنيا وسلطانها،
فالشقي في ميزانهم من قلت مادته وقدر عليه رزقه، وهذا -لعمر الحق- غفلة
شنيعة، وجهل في المقاييس عريض: (وَلا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ
زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا
لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه: 131،132].
نعم -أيها الإخوة-، المتقون تقر أعينهم بالطاعات في الدنيا، وبعُلا الدرجات من الجنة في الأخرى.
يقال ذلك -أيها المسلمون- وقد أظلكم هذا الشهر الكريم المبارك، شهر فرض الله عليكم صيامه لعلكم تتقون.
أيها الإخوة: غاية الصيام تقوى الله
-عز وجل-، تقوى يتمثل فيها الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة
بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل، تقوى صادقة دقيقة، يترك فيها الصائم ما
يهوى حذرًا مما يخشى، ولئن كانت فرائض الإسلام وأحكامه وأوامره ونواهيه
كلها سبيل التقوى، فإن خصوصية الارتباط بين الصيام والتقوى شيء عجيب.
أيها الإخوة: جوارح الإنسان عين وأذن ويد ولسان، وبطن وفرج، والقلب من ورائها أصلها وحاكمها.
صام القلب واتقى إذا جرَّد العبودية
لله وحده، خضع لجلاله، وسعى لقربه، وأنس بمناجاته، خلص من الشرك، وسلم من
البدع، وتطهر من المعاصي، قلب تقي يرى الهوى والشهوة والظن والبغي،
والعداوة والبغضاء، والغل والحسد، والجدل والِمراَء، أمراضًا قلبية فتاكة،
تقتل الأفراد وتهلك الأمم، القلب التقي يرفضها ويأباها ويتقيها
ويتقيَّؤُها، وصيامه ينفيها ويجفوها.
قلب صائم متدين لله بالطاعة، مستسلم له
بالخضوع والاستجابة، منقاد لتنفيذ الشرع في الأمر والنهي، عبودية لله
خالصة لا يصرفه عنها شهوة ولا شبهة، ولا يشوش عليه فيها أمان ولا طمع، قلب
قوي تقي، لله صلاته وصيامه ونسكه ومحياه ومماته، فـ"من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
وإذا صلح القلب صلحت الجوارح، فقامت
بحق الطاعة وكفت عن الآثام، فالبطن محفوظ وما حوى، ترك الطعام والشراب
والشهوة من أجل الله، تقىً عالٍ يقي النفس جماح غرائزها، وإرادة مستعلية
مستحكمة تأخذ أمر ربها بقوة، وتزدجر عن النواهي باستسلام.
لقد كان على الهدى، وائتمر بالتقوى
مَنْ منع جسده تخمة الغذاء، ليمنع جوارحه السوء والأذى، قلة الشبع تكبح
الجماح، وتبعد نزغات الشياطين، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
قلة الشبع تجعل الجوارح أقرب لفعل
القربة، يرق القلب، ويغزر الدمع، ويخذل الشيطان، وانظر -حفظ الله دينك وزاد
في تقاك- في ضعافٍ مهازيلَ؛ ممن جاع نهاره، وملأ في الليل بطنه، فهو صريع
لذة عارمة، وعبد لشهوة جامحة، هل حقق معنى التقوى حين تفنن بأطايب الطعام
وألوان الموائد؟! بينما قليل منه قد يشبع جياعًا ويسعد أسرًا، قليل منه قد
يكفكف دموعًا ويوقف عبراتٍ، هل أعطى واتقى -أم كيف أعطى؟! وماذا اتقى؟!- من
جعل رمضان تبذيرًا، وفطره تخمة؟! مسكين بائس لا يرى في الصوم إلا جوعًا
لا تتحمله معدته، وعطشًا لا تقوى عليه عروقه.
أي تقوى وأي مقاومة عند أمثال هؤلاء
المهازيل؟! أولئك أقوام انهزمت عزائمهم أمام جوع بطونهم، لقد أورثهم الشبع
قسوة، فجعلهم نَؤُومِين، وأقعدهم كسالى.
ألا فاقعدوا فأنتم الطاعمون الكاسون،
من أعلن استسلامه في معركة لقيمات لا تدوم سوى سويعات فليس جديرًا بأن يعيش
عزة المتقين، وعلياء الشهداء والمجاهدين.
الله أكبر؛ لقد فرض الصيام لتمحيص التقوى، وليصبح المسلم صائمًا بقيامه بترك مطعمه ومشربه؛ قصده رضا محبوبِه: "الصوم لي وأنا أجزي به".
هذا حال البطن وما حوى، فيا ترى ما بال
الرأس وما وعى؟! من لم يدع قول الزور والعمل به كيف صام وماذا اتقى؟! حظه
من صيامه الجوع والعطش، ونصيبه من قيامه السهر والنصب، أين التقوى في
أسماعهم وأبصارهم؟! لغو ولهو وقيل وقال، وأصوات معازف، وصور ماجنة، وقصص
خالعة، في النهار نوم في تقصير، وفي الليل سهر في غير طاعة، متبرمون في
أعمالهم، سيئون في معاملاتهم، ويتثاقلون في أداء مسؤولياتهم، نشاط في اللهو
والسمر، وكسل في الجد والعبادة.
أيها الأحبة: شهركم شهر التقوى، شهركم
موسم عظيم للمحاسبة، وميدان فسيح للمنافسة، تصفو فيه نفوس من داخلها،
وتقترب فيه قلوب من خالقها، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار،
وتصفد الشياطين، وتكثر دواعي الخير وأسباب المثوبة.
رحمة ومغفرة وعتق من النار، فأقبلوا على الطاعة، وتزودوا من التقى، واستروحوا روائح الجنة، وتعرضوا للنفحات.
الصائمون المتقون لا يزالون في صلاة
وصيام وتلاوة وذكر وصلة وإحسان وجدٍ وعملٍ، فاطلبوا الخير دهركم، وتعرضوا
لنفحات ربكم، فخيركم من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء
عمله.
أيها المتقون الصائمون: فتشوا عن
المحتاجين من أقربائكم والمساكين من جيرانكم والغرباء من إخوانكم، لا تنسوا
برهم وإسعادهم، أشركوهم معكم في رزق ربكم، اذكروا جوع الجائعين، ولوعة
الملتاعين، وعبرات البائسين، وغربة المشردين ووحشة المهجرين.
اسألوا في شهر التقوى والمحاسبة: هل
قام بحق التقوى من بات شبعان وحوله جائع يستطيع إشباعه فلم يفعل؟! وهل قام
بحق الشهر من رأى نفسًا مؤمنة بائسة يستطيع إسعادها فلم يفعل؟!
أيها المسلمون: صوموا حق الصيام لعلكم
تتقون، ومن يتق الله يكن معه، ومن كان الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب،
والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، وإذا كان الله معك -يا عبد
الله- فمن تخاف؟! وإذا كان عليك فمن ترجو؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً
مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي
أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ
كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) [البقرة:183-185].