سبحان الله ,, و الحمد لله ,, و الله أكبر ,, و لا إله إلا الله
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وأكرمنا بفريضة الصيام والصلاة على خير الأنام نبينا محمد وعلى آله وصحبه السادة الكرام...أما بعد:
فإن الإسلام دين تربية للملكات والفضائل والكمالات فهو يعد المسلم تلميذا
ملازما في مدرسة الحياة دائما فيها دائبا عليها يتلقى فيها ما تقتضيه
طبيعته من نقص وكمال وما تقضيه طبيعته من خير وشر,ومن ثمّ فهو يأخذه أخذ
المربي في مزيج من الرفق والعنف بامتحانات دورية متكررة لا يخرج من امتحان
إلا ليدخل في امتحان آخر وفي هذه الامتحانات من الفوائد للمسلم ما لا يوجد
عشره ولا معشاره في الامتحانات المدرسية المعروفة.
وامتحانات الإسلام تتجلى في هذه الشعائر المفروضة على المسلم تلك الشعائر
التي شرعت للتربية والتزكية والتعليم لا ليضيّق بها على المسلم ولا ليجعل
عليه في الدين من حرج ولكنّ الإسلام يريد ليطهره بها وينمي ملكات الخير
والرحمة فيه وليقوي إرادته وعزيمته في الإقدام على الخير والإقلاع عن الشر
ويروضه على الفضائل الشاقة كالصبر والثبات والحزم والعزم والنظام وليحرره
من تعبّد الشهوات له وملكها لعنانه.
وفي كل فريضة من فرائض الإسلام امتحان لإيمان المسلم وعقله وإرادته غير أن
الصيام أعسرها امتحانا لأنه مقاومة عنيفة لسلطان الشهوات الجسمية فعليه
تروّض النفوس المطمئنة وبه تروض النفوس الجامحة فمدته شهر قمريّ متتابع
وصورته الكاملة فطم عن شهوات البطن والفرج واللسان والأذن والعين, وكلّ ما
نقص من أجزاء ذلك الفطام فهو نقص في حقيقة الصيام كما جاءت بذلك الآثار عن
صاحب الشريعة وكما تقتضيه الحكمة الجامعة من معنى الصوم.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: «الصّيام جنّة» رواه البخاري -1761- (6/457), ومسلم -1943- (6/16).. أي وقاية.
ففي الصوم وقاية من المأثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول الملذات.
إذا المرء لم يترك طعاما يحبّه ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
فيوشك أن تلقى له الدهر سبّة إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
لا يتوهم المسلم أن حقيقة الصوم إمساك عن بعض
الشهوات في النهار ثم يعقبه انهماك في جميع الشهوات في الليل فإن الذي
نشاهده من آثار هذا الصوم إجاعة البطن وإظماء الكبد وفتور الأعضاء وانقباض
الأسارير وبذاءة اللسان وسرعة الانفعال واتخاذ الصوم شفيعا فيما لا يحبّ
من الجهر بالسيئ من القول وعذرا فيما تبدر به البوادر من اللّجاج والخصام
والأيمان الفاجرة.
كلا إن الصوم لا يكمل ولا تتمّ حقيقته ولا تظهر حكمه ولا آثاره إلا بالفطام
عن جميع الشهوات الموزعة على الجوارح فللأذن شهوات في الاستماع وللعين
شهوات من مدّ النظر وتسريحه وللّسان شهوات في الغيبة والنميمة ولذات في
الكذب واللغو.
وإن شهوات اللسان لتربو على شهوات الجوارح كلها وإن له لضراوة بتلك الشهوات لا يستطيع حبسه عنها إلا الموفقون من أهل العزائم القوية.
أيها الصائم:
صوم رمضان محكّ للإرادات النفسية وقمع للشهوات الجسمية ورمز للتعبد من
صورته العليا ورياضة شاقة على هجر اللذائذ والطيبات وتدريب منظم على تحمل
المكروه من جوع وعطش ونطق بحقّ وسكوت عن باطل.
والصوم درس مفيد في سياسة المرء لنفسه وتحكّمه في أهوائه وضبطه بالجد لنوازع الهزل واللغو والعبث.
وهو تربية عملية لخلق الرحمة بالعاجز المعدم فلولا الصيام لما ذاق الأغنياء
الواجدون ألم الجوع ولما تصوروا ما يفعله الجوع بالجائعين.
وفي الإدراكات النفسية جوانب لا يغني فيها السماع عن
الوجدان فلو أن جائعا ظل وبات على الطّوى خمس ليال ووقف خمسا أخرى يصور
للأغنياء البطان ما فعله الجوع بأمعائه وأعصابه وكان حاله أبلغ في التعبير
من مقاله, لما بلغ في التأثير فيهم ما تبلغه جوعة واحدة في نفس غنيّ مترف,
ولذلك كان نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- أجود الناس وكان أجود ما يكون
في رمضان حين يدارسه جبريل القرآن فرسول الله أجود بالخير من الريح
المرسلة.
أيها الصائم
رمضان نفحات إلهية تهبّ على العالم الأرضي في كل عام قمريّ مرة وصفحة
سماوية تتجلى على أهل الأرض فتجلو لهم من صفات الله عطفه وبرّه ومن لطائف
الإسلام حكمته وسرّه فلينظر المسلمون أين حظهم من تلك النفحة وأين مكانهم
من تلك الصفحة. ورمضان مستشفى زمانيّ يجد فيه كل مريض دواء دائه حيث يستشفي
فيه مرضى البخل بالإحسان ومرضى البطنة بالجوع والعطش ومرضى الخصاصة والجوع
بالكفاية والشّبع.
شهر رمضان عند الأيقاظ المتذكّرين شهر التجليات الرحمانية على القلوب
المؤمنة ينضحها بالرحمة ويفيض عليها بالرّوح ويأخذها بالمواعظ فإذا هي
كأعواد الربيع جدّة ونضرة وطراوة وخضرة.
وإنها لحكمة أن كان شهرا قمريّا لا شمسيّا ليكون ربيعا
للنفوس متنقلا على الفصول فيروّض النفوس على الشدة في الاعتدال وعلى
الاعتدال في الشدة, ثم إن رمضان يحرك النفوس إلى الخير ويسكّنها عن الشر
فتكون أجود بالخير من الريح المرسلة وأبعد عن الشر من الطفولة البريئة.
ورمضان يطلق النفوس من أسر العادات ويحررها من رق الشهوات ويجتث منها فساد
الطباع ورعونة الغرائز ويطوف عليها في أيامه بمحكمات الصبر ومثبّتات
العزيمة وفي لياليه بأسباب الاتصال بالله والقرب منه.
عبد الله:
إن الصوم ينمّي في النفوس رعاية الأمانة والإخلاص في العمل وألا يراعى فيه
غير وجه الله -تعالى- وهذه فضيلة عظمى تقضي على رذائل المداهنة والرياء
والنفاق. والصوم من أكبر الحوافز لتحقيق التقوى وأحسن الطرق الموصلة إليها
ولهذا السر ختمت آيات الصوم بقوله تعالى: {لعلّكم تتّقون} سورة البقرة (183) .
شهر الصيام يربي في النفوس مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال فيبعثها إلى بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الأهل والجيران.
ومن أثر الصيام على النفوس حصول الصحة العامة بجميع معانيها ففيه صحة بدنية
حسية وفيه صحة روحية معنوية وفيه صحة فكرية ذهنية, فالصحة البدنية تأتي من
كون الصيام يقضي على المواد المترسبة في البدن ولا سيما أبدان أولي
النّعمة والنّهمة والتّخمة وقليلي العمل والحركة فقد قال الأطباء: إن
الصيام يحفظ الرطوبات الطارئة ويطهر الأمعاء من فساد السموم التي تحدثها
البطنة ويحول دون كثرة الشحوم التي لها خطرها على القلب فهو كتضمير الخيل
الذي يزيدها قوة على الكر والفر.
وأما الصحة المعنوية فكما تقدم من أن الصوم من أعظم ما تصح به القلوب وتزكو به الأرواح.
وأما الصحة الفكرية فتأتي من أثر الصيام الصحيح حيث يحصل به حسن التفكير وسلامة النظرة والتدبر في أمر الله ونهيه وحكمته.
وبذلك يصح للصائم تفكيره ويستنير بنور ربه ويستجيب لنداءاته ويحقق طاعته
فيخرج من صيامه بنفس جديدة وفكر نيّر يسلم به من وصف البهيمية ويصعد في
مراتب السعادة والسيادة درجات.
عباد الله:
إن لكل عبادة في الإسلام حكمة أو حكما يظهر بعضها
بالنص عليه أو بأدنى عمل عقلي وقد يخفى بعضها إلا على المتأملين المتعمقين
في التفكر والتدبر والموفقين في الاستجلاء والاستنباط.
والحكمة الجامعة في العبادات كلّها هي تزكية النفوس وتطهيرها من النقائص
وتصفيتها من الكدرات وإعدادها للكمال الإنساني وتقريبها للملأ الأعلى
وتلطيف كثافتها الحيوانية اللازمة لها من أصل الجبلّة وتغذيتها بالمعاني
السماوية الطاهرة فالإسلام ينظر للإنسان على أنه كائن وسط ذو قابلية للصفاء
الملكي والكدر الحيواني وذو تركيب يجمع حمأ الأرض وإشراق السماء وقد أوتي
العقل والإرادة والتمييز ليسعد في الحياتين المنظورة والمذخورة أو يشقى
بهما.
ولكل عبادة في الإسلام تؤدّى على وجهها المشروع أو بمعناها الحقيقي آثار في
النفوس تختلف باختلاف العابدين في صدق التوجه واستجماع الخواطر واستحضار
العلاقة بالمعبود.
والعبادات إذا لم تعط آثارها في أعمال الإنسان الظاهرة فهي عبادة مدخولة أو جسم بلا روح.
أيها الصائم:
لقد بين الله سبحانه وتعالى لنا بعضا من أسرار التشريع وحكم التكليف في
آيات كثيرة من كتابه المبين شحذا للأذهان أن تفكر وتعمل وإيماء إلى أن هذا
التشريع الإلهيّ الخالد لم يقم إلا على ما يحقق للناس مصلحة أو يدفع عنهم
ضررا وليزداد إقبال النفوس على الدين قوة إلى قوة.
وحين أمرنا بالصيام ذكر حكمته وفائدته الجامعة بكلمة واحدة من كلامه المعجز فقال -عز وجل-: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون} البقرة (183) .
فالتقوى هي الحكمة الجامعة من تشريع الصيام, بل انظر إلى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن آداب الصائم –كما في الصحيحين-: «الصّيام جنّة -أي وقاية- وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب» رواه البخاري -1771- (6/474), ومسلم -1944- (ج 6 / ص 17). فقد قدم الحكمة من الصيام ثم بين آدابه ليكون أوقع في النفس وأعمق أثرا.
وما دام الإسلام لا يتنكّر للعقل ولا يخاطب الناس إلا بما يتفق مع التفكير
السليم والمنطق القويم ولا يأمر من التشريع بشيء إلا إذا كانت المصلحة
تحتّم العمل به أو تركه-لم يكن علينا من حرج حين ننظر في أسرار التشريع
وبيان فوائده. وما برح الناس في كل عصر يرون من فوائد التشريع ما يتفق مع
تفكيرهم ومصالحهم, وهذا دليل على أن هذا التشريع من لدن حكيم خبير أحسن كل
شيء خلقه ثم هدى.
أخي الصائم:
ينفرد الصوم من بين العبادات بأنه قمع للغرائز عن الاسترسال في الشهوات
التي هي أصل البلاء على الروح والبدن وفطم لأمهات الجوارح عن أمهات الملذات
ولا مؤدّب للإنسان كالكبح لضراوة الغرائز فيه والحدّ من سلطان الشهوات
عليه.
بل هو في الحقيقة نصر له على هذه العوامل التي تدسّي نفسه وتبعده عن الكمال.
وكما يحسن في عرف التربية أن يؤخذ الصغير بالشدة في بعض الأحيان وأن يعاقب
بالحرمان من بعض ما تمليه عليه نفسه-فإنه يجب في التربية الدينية للكبار
المكلفين أن يؤخذوا بالشدة في أحيان متقاربة كمواقيت الصلاة {وإنّها لكبيرة إلاّ على الخاشعين} سورة البقرة (45) .
أو متباعدة كشهر رمضان إن في الصوم جوعا للبطن وشبعا للروح وإضواء للجسم وتقوية للقلب وهبوطا باللذة وسموّا بالنّفس.
في الصوم يجد المؤمن فراغا لمناجاة ربه والاتصال به والإقبال عليه والأنس بذكره وتلاوة كتابه.
هذه بعض أسرار الصوم وآثاره وهذا هو ما كان يفهمه السلف الصالح من معاني
الصوم وبذلك كانوا معجزة الإسلام في الثبات على الحق والدعوة إليه والتخلق
به فلم تر الإنسانية من يضاهيهم بسمو أنفسهم ونبل غاياتهم وبعد هممهم
وإشراقة أرواحهم وهداية قلوبهم وحسن أخلاقهم.
إنه لجدير بالصائم أن يستحضر هذه المعاني وأن يكون له من صيامه أوفر الحظ
والنصيب وألا يفعل بعد إفطاره أو نهاية شهره ما يخلّ بهذه القوة أو يوهنها
فيهدم في ليله ما بناه في نهاره وفي نهاية شهره ما بناه في شهره فما أسعد
الصائم وما أحزمه لو اغتنم شهر الصيام وجعله مدرسة يتدرب فيها على هجر
مألوفاته التي اعتاد عليها.
وإن هو عكس الأمر فصار يتأفف على ما حرمه منه الصيام ويتلهف لساعة الإفطار
ليسارع إلى تناول مألوفاته المضرّة به فقد ضيع الحزم والعزم وبرهن على خوره
وضعف نفسه وقلة فائدته من صيامه.
اللهم أفض علينا من جودك وكرمك ولا تحرمنا بركات
هذا الشهر الكريم واجعل لنا منه أوفر الحظ والنصيب واجعلنا ممن صامه وقامه
إيمانا واحتسابا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين .
فإن الإسلام دين تربية للملكات والفضائل والكمالات فهو يعد المسلم تلميذا
ملازما في مدرسة الحياة دائما فيها دائبا عليها يتلقى فيها ما تقتضيه
طبيعته من نقص وكمال وما تقضيه طبيعته من خير وشر,ومن ثمّ فهو يأخذه أخذ
المربي في مزيج من الرفق والعنف بامتحانات دورية متكررة لا يخرج من امتحان
إلا ليدخل في امتحان آخر وفي هذه الامتحانات من الفوائد للمسلم ما لا يوجد
عشره ولا معشاره في الامتحانات المدرسية المعروفة.
وامتحانات الإسلام تتجلى في هذه الشعائر المفروضة على المسلم تلك الشعائر
التي شرعت للتربية والتزكية والتعليم لا ليضيّق بها على المسلم ولا ليجعل
عليه في الدين من حرج ولكنّ الإسلام يريد ليطهره بها وينمي ملكات الخير
والرحمة فيه وليقوي إرادته وعزيمته في الإقدام على الخير والإقلاع عن الشر
ويروضه على الفضائل الشاقة كالصبر والثبات والحزم والعزم والنظام وليحرره
من تعبّد الشهوات له وملكها لعنانه.
وفي كل فريضة من فرائض الإسلام امتحان لإيمان المسلم وعقله وإرادته غير أن
الصيام أعسرها امتحانا لأنه مقاومة عنيفة لسلطان الشهوات الجسمية فعليه
تروّض النفوس المطمئنة وبه تروض النفوس الجامحة فمدته شهر قمريّ متتابع
وصورته الكاملة فطم عن شهوات البطن والفرج واللسان والأذن والعين, وكلّ ما
نقص من أجزاء ذلك الفطام فهو نقص في حقيقة الصيام كما جاءت بذلك الآثار عن
صاحب الشريعة وكما تقتضيه الحكمة الجامعة من معنى الصوم.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: «الصّيام جنّة» رواه البخاري -1761- (6/457), ومسلم -1943- (6/16).. أي وقاية.
ففي الصوم وقاية من المأثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول الملذات.
إذا المرء لم يترك طعاما يحبّه ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
فيوشك أن تلقى له الدهر سبّة إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
لا يتوهم المسلم أن حقيقة الصوم إمساك عن بعض
الشهوات في النهار ثم يعقبه انهماك في جميع الشهوات في الليل فإن الذي
نشاهده من آثار هذا الصوم إجاعة البطن وإظماء الكبد وفتور الأعضاء وانقباض
الأسارير وبذاءة اللسان وسرعة الانفعال واتخاذ الصوم شفيعا فيما لا يحبّ
من الجهر بالسيئ من القول وعذرا فيما تبدر به البوادر من اللّجاج والخصام
والأيمان الفاجرة.
كلا إن الصوم لا يكمل ولا تتمّ حقيقته ولا تظهر حكمه ولا آثاره إلا بالفطام
عن جميع الشهوات الموزعة على الجوارح فللأذن شهوات في الاستماع وللعين
شهوات من مدّ النظر وتسريحه وللّسان شهوات في الغيبة والنميمة ولذات في
الكذب واللغو.
وإن شهوات اللسان لتربو على شهوات الجوارح كلها وإن له لضراوة بتلك الشهوات لا يستطيع حبسه عنها إلا الموفقون من أهل العزائم القوية.
أيها الصائم:
صوم رمضان محكّ للإرادات النفسية وقمع للشهوات الجسمية ورمز للتعبد من
صورته العليا ورياضة شاقة على هجر اللذائذ والطيبات وتدريب منظم على تحمل
المكروه من جوع وعطش ونطق بحقّ وسكوت عن باطل.
والصوم درس مفيد في سياسة المرء لنفسه وتحكّمه في أهوائه وضبطه بالجد لنوازع الهزل واللغو والعبث.
وهو تربية عملية لخلق الرحمة بالعاجز المعدم فلولا الصيام لما ذاق الأغنياء
الواجدون ألم الجوع ولما تصوروا ما يفعله الجوع بالجائعين.
وفي الإدراكات النفسية جوانب لا يغني فيها السماع عن
الوجدان فلو أن جائعا ظل وبات على الطّوى خمس ليال ووقف خمسا أخرى يصور
للأغنياء البطان ما فعله الجوع بأمعائه وأعصابه وكان حاله أبلغ في التعبير
من مقاله, لما بلغ في التأثير فيهم ما تبلغه جوعة واحدة في نفس غنيّ مترف,
ولذلك كان نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- أجود الناس وكان أجود ما يكون
في رمضان حين يدارسه جبريل القرآن فرسول الله أجود بالخير من الريح
المرسلة.
أيها الصائم
رمضان نفحات إلهية تهبّ على العالم الأرضي في كل عام قمريّ مرة وصفحة
سماوية تتجلى على أهل الأرض فتجلو لهم من صفات الله عطفه وبرّه ومن لطائف
الإسلام حكمته وسرّه فلينظر المسلمون أين حظهم من تلك النفحة وأين مكانهم
من تلك الصفحة. ورمضان مستشفى زمانيّ يجد فيه كل مريض دواء دائه حيث يستشفي
فيه مرضى البخل بالإحسان ومرضى البطنة بالجوع والعطش ومرضى الخصاصة والجوع
بالكفاية والشّبع.
شهر رمضان عند الأيقاظ المتذكّرين شهر التجليات الرحمانية على القلوب
المؤمنة ينضحها بالرحمة ويفيض عليها بالرّوح ويأخذها بالمواعظ فإذا هي
كأعواد الربيع جدّة ونضرة وطراوة وخضرة.
وإنها لحكمة أن كان شهرا قمريّا لا شمسيّا ليكون ربيعا
للنفوس متنقلا على الفصول فيروّض النفوس على الشدة في الاعتدال وعلى
الاعتدال في الشدة, ثم إن رمضان يحرك النفوس إلى الخير ويسكّنها عن الشر
فتكون أجود بالخير من الريح المرسلة وأبعد عن الشر من الطفولة البريئة.
ورمضان يطلق النفوس من أسر العادات ويحررها من رق الشهوات ويجتث منها فساد
الطباع ورعونة الغرائز ويطوف عليها في أيامه بمحكمات الصبر ومثبّتات
العزيمة وفي لياليه بأسباب الاتصال بالله والقرب منه.
عبد الله:
إن الصوم ينمّي في النفوس رعاية الأمانة والإخلاص في العمل وألا يراعى فيه
غير وجه الله -تعالى- وهذه فضيلة عظمى تقضي على رذائل المداهنة والرياء
والنفاق. والصوم من أكبر الحوافز لتحقيق التقوى وأحسن الطرق الموصلة إليها
ولهذا السر ختمت آيات الصوم بقوله تعالى: {لعلّكم تتّقون} سورة البقرة (183) .
شهر الصيام يربي في النفوس مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال فيبعثها إلى بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الأهل والجيران.
ومن أثر الصيام على النفوس حصول الصحة العامة بجميع معانيها ففيه صحة بدنية
حسية وفيه صحة روحية معنوية وفيه صحة فكرية ذهنية, فالصحة البدنية تأتي من
كون الصيام يقضي على المواد المترسبة في البدن ولا سيما أبدان أولي
النّعمة والنّهمة والتّخمة وقليلي العمل والحركة فقد قال الأطباء: إن
الصيام يحفظ الرطوبات الطارئة ويطهر الأمعاء من فساد السموم التي تحدثها
البطنة ويحول دون كثرة الشحوم التي لها خطرها على القلب فهو كتضمير الخيل
الذي يزيدها قوة على الكر والفر.
وأما الصحة المعنوية فكما تقدم من أن الصوم من أعظم ما تصح به القلوب وتزكو به الأرواح.
وأما الصحة الفكرية فتأتي من أثر الصيام الصحيح حيث يحصل به حسن التفكير وسلامة النظرة والتدبر في أمر الله ونهيه وحكمته.
وبذلك يصح للصائم تفكيره ويستنير بنور ربه ويستجيب لنداءاته ويحقق طاعته
فيخرج من صيامه بنفس جديدة وفكر نيّر يسلم به من وصف البهيمية ويصعد في
مراتب السعادة والسيادة درجات.
عباد الله:
إن لكل عبادة في الإسلام حكمة أو حكما يظهر بعضها
بالنص عليه أو بأدنى عمل عقلي وقد يخفى بعضها إلا على المتأملين المتعمقين
في التفكر والتدبر والموفقين في الاستجلاء والاستنباط.
والحكمة الجامعة في العبادات كلّها هي تزكية النفوس وتطهيرها من النقائص
وتصفيتها من الكدرات وإعدادها للكمال الإنساني وتقريبها للملأ الأعلى
وتلطيف كثافتها الحيوانية اللازمة لها من أصل الجبلّة وتغذيتها بالمعاني
السماوية الطاهرة فالإسلام ينظر للإنسان على أنه كائن وسط ذو قابلية للصفاء
الملكي والكدر الحيواني وذو تركيب يجمع حمأ الأرض وإشراق السماء وقد أوتي
العقل والإرادة والتمييز ليسعد في الحياتين المنظورة والمذخورة أو يشقى
بهما.
ولكل عبادة في الإسلام تؤدّى على وجهها المشروع أو بمعناها الحقيقي آثار في
النفوس تختلف باختلاف العابدين في صدق التوجه واستجماع الخواطر واستحضار
العلاقة بالمعبود.
والعبادات إذا لم تعط آثارها في أعمال الإنسان الظاهرة فهي عبادة مدخولة أو جسم بلا روح.
أيها الصائم:
لقد بين الله سبحانه وتعالى لنا بعضا من أسرار التشريع وحكم التكليف في
آيات كثيرة من كتابه المبين شحذا للأذهان أن تفكر وتعمل وإيماء إلى أن هذا
التشريع الإلهيّ الخالد لم يقم إلا على ما يحقق للناس مصلحة أو يدفع عنهم
ضررا وليزداد إقبال النفوس على الدين قوة إلى قوة.
وحين أمرنا بالصيام ذكر حكمته وفائدته الجامعة بكلمة واحدة من كلامه المعجز فقال -عز وجل-: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون} البقرة (183) .
فالتقوى هي الحكمة الجامعة من تشريع الصيام, بل انظر إلى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن آداب الصائم –كما في الصحيحين-: «الصّيام جنّة -أي وقاية- وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب» رواه البخاري -1771- (6/474), ومسلم -1944- (ج 6 / ص 17). فقد قدم الحكمة من الصيام ثم بين آدابه ليكون أوقع في النفس وأعمق أثرا.
وما دام الإسلام لا يتنكّر للعقل ولا يخاطب الناس إلا بما يتفق مع التفكير
السليم والمنطق القويم ولا يأمر من التشريع بشيء إلا إذا كانت المصلحة
تحتّم العمل به أو تركه-لم يكن علينا من حرج حين ننظر في أسرار التشريع
وبيان فوائده. وما برح الناس في كل عصر يرون من فوائد التشريع ما يتفق مع
تفكيرهم ومصالحهم, وهذا دليل على أن هذا التشريع من لدن حكيم خبير أحسن كل
شيء خلقه ثم هدى.
أخي الصائم:
ينفرد الصوم من بين العبادات بأنه قمع للغرائز عن الاسترسال في الشهوات
التي هي أصل البلاء على الروح والبدن وفطم لأمهات الجوارح عن أمهات الملذات
ولا مؤدّب للإنسان كالكبح لضراوة الغرائز فيه والحدّ من سلطان الشهوات
عليه.
بل هو في الحقيقة نصر له على هذه العوامل التي تدسّي نفسه وتبعده عن الكمال.
وكما يحسن في عرف التربية أن يؤخذ الصغير بالشدة في بعض الأحيان وأن يعاقب
بالحرمان من بعض ما تمليه عليه نفسه-فإنه يجب في التربية الدينية للكبار
المكلفين أن يؤخذوا بالشدة في أحيان متقاربة كمواقيت الصلاة {وإنّها لكبيرة إلاّ على الخاشعين} سورة البقرة (45) .
أو متباعدة كشهر رمضان إن في الصوم جوعا للبطن وشبعا للروح وإضواء للجسم وتقوية للقلب وهبوطا باللذة وسموّا بالنّفس.
في الصوم يجد المؤمن فراغا لمناجاة ربه والاتصال به والإقبال عليه والأنس بذكره وتلاوة كتابه.
هذه بعض أسرار الصوم وآثاره وهذا هو ما كان يفهمه السلف الصالح من معاني
الصوم وبذلك كانوا معجزة الإسلام في الثبات على الحق والدعوة إليه والتخلق
به فلم تر الإنسانية من يضاهيهم بسمو أنفسهم ونبل غاياتهم وبعد هممهم
وإشراقة أرواحهم وهداية قلوبهم وحسن أخلاقهم.
إنه لجدير بالصائم أن يستحضر هذه المعاني وأن يكون له من صيامه أوفر الحظ
والنصيب وألا يفعل بعد إفطاره أو نهاية شهره ما يخلّ بهذه القوة أو يوهنها
فيهدم في ليله ما بناه في نهاره وفي نهاية شهره ما بناه في شهره فما أسعد
الصائم وما أحزمه لو اغتنم شهر الصيام وجعله مدرسة يتدرب فيها على هجر
مألوفاته التي اعتاد عليها.
وإن هو عكس الأمر فصار يتأفف على ما حرمه منه الصيام ويتلهف لساعة الإفطار
ليسارع إلى تناول مألوفاته المضرّة به فقد ضيع الحزم والعزم وبرهن على خوره
وضعف نفسه وقلة فائدته من صيامه.
اللهم أفض علينا من جودك وكرمك ولا تحرمنا بركات
هذا الشهر الكريم واجعل لنا منه أوفر الحظ والنصيب واجعلنا ممن صامه وقامه
إيمانا واحتسابا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين .